بنقردان تضع تونس في مواجهة شاملة مع داعش

بنقردان تضع تونس في مواجهة شاملة مع داعش

17 مارس 2016

قوة للجيش التونسي أثناء المواجهات مع المسلحين (8 مارس/2016/أ.ف.ب)

+ الخط -
قامت مجموعات مسلّحة مؤلّفة من تونسيين ينتمون إلى تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف بـ "داعش"، فجر يوم 7 مارس/ آذار 2016، بتنفيذ هجماتٍ متزامنةً على منطقتي الحرس والأمن الوطنيين وثكنة الجيش الوطني في مدينة بنقردان التونسية، وتعاملت الوحدات الأمنية والعسكرية التونسية معها بسرعة، وتمكّنت من السيطرة على الوضع في المدينة. وأعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن العملية، وتوعّد بالردّ على مقتل عناصره في العملية الفاشلة. فلماذا تمّ استهداف مدينة بنقردان تحديدًا؟ وما هي أهداف تنظيم الدولة من وراء العملية؟ وما هي إستراتيجيات التنظيم في اختراق المجتمع التونسي؟ وكيف السبيل إلى التعامل مع الأخطار والتهديدات الأمنية المتكررة التي تواجهها تونس؟

لماذا استُهدفت بنقردان؟
تقع مدينة بنقردان في أقصى الجنوب الشرقي من تونس، على خطّ التماسّ مباشرةً مع ليبيا، وبالقرب من معبر رأس جدير الحدودي الذي يُعدّ شريان الحياة للمنطقة الجنوبية من الجمهورية التونسية. وهي جزء من محافظة مدنين. يحدّها من الشمال ساحل بحر بوغرارة وجرجيس وبحيرة البيبان، ومن الشرق والجنوب الحدود التونسية الليبية على امتداد 97 كيلومتراً، ومن الغرب مدينتَا مدنين وتطاوين. ويبلغ عدد سكّان المدينة نحو 80 ألف نسمة، وهي تتميز بمناخها الحارّ والجافّ.
وعلى الرغم ممّا تشتمل عليه المنطقة من ثراءٍ طبيعي وبيئي وتراثي، فإنّها ظلّت بعيدةً عن اهتمام الدولة طوال تاريخها الحديث؛ إذ عُدمت فيها الاستثمارات الصناعية والزراعية، فاتجه السكان إلى ممارسة التجارة الموازية (التهريب) الذي لم يعُد يقتصر على تهريب السلع والنفط، بل اتسع ليشمل تهريب البشر والسلاح من ليبيا نحو تونس، بعد إطاحة حكم القذافي، غير أنّ هذه التجارة الموازية تضرّرت كثيراً، بعد أن تصاعدت حدّة الأزمة السياسية والأمنية والعسكرية في ليبيا، في عقب اندلاع الاقتتال بين الفصائل المسلّحة المتنازعة في فرض السيطرة بقوة السلاح على مناطق إستراتيجية من البلاد، ما أدّى إلى انعكاسٍ سلبيّ على التجار والمهربين، وإلى تهديد البطالة آلافاً من العمّال.
عُرفت المدينة بتقاليدها "النضالية" في زمن الاستعمار، وفي زمن الاستقلال. وفي عهد بن
علي، شهدت انتفاضةً عارمةً خلال رمضان 2010، وذلك بعد تشغيل الخط التجاري البحري بين ميناء طرابلس وميناء صفاقس، وقرار السلطات الليبية فرض ضريبة بقيمة 150 دينار (نحو 80 يورو بحساب تلك السنة) على كلّ سيارةٍ تدخل البلاد، ما دفع السلطات التونسية إلى منْع بيع البضائع الليبية، مُستثنيةً من هذا المنع مَن يملكون رخصة تصدير وتوريد، وهو أمرٌ حرم الأغلبية الكبرى لسكان بنقردان، من تجّار ومهرّبين.. إلخ، من مورد رزقهم الرئيس. وقد استمرت الانتفاضة أيّاماً، وطالب الأهالي الدولة بأن توجد لهم فرص عملٍ. وكانت تلك الاحتجاجات الشعبية (إلى جانب انتفاضة الحوض المنجمي) الشرارة الأولى لسقوط نظام بن علي. كما عرفت المنطقة، بعد الثورة، عدّة احتجاجات وإضرابات، تنديدًا بإهمال السلطة للمنطقة.
أهداف العملية
يبدو من طريقة التنفيذ أنّه جرى التخطيط للعملية بدقة، وهو أمرٌ تؤكده عدّة مؤشرات، منها:
•العثور على مخازن للسلاح في المنطقة، وتحرّك بعض الخلايا النائمة لإسناد الجماعات المسلّحة المهاجمة.
•اعتماد المهاجمين تكتيك المباغتة والتّرهيب عبر الانتشار في شوارع المدينة، وتنفيذ عمليّات قتل وإعدام استعراضيّة في حقّ مدنيّين ورجال أمن.
•محاولة كسب "تعاطف" السكان، عبر التحريض ضدّ السلطة التي أخفقت في تنمية المدينة، وفي إيجاد حلولٍ لمشكلاتها الاقتصادية والمعيشية.
أمّا بشأن هدف العملية، فتوجد قراءتان؛ تذهب إحداهما إلى أنّ هدفها كان جسّ نبض الأجهزة الأمنية والعسكرية التونسية، ومعرفة مدى قدراتها على المواجهة واستعدادها لها. ومن ثمّ، فإنّ العملية، بحسب هذه القراءة، لا تتعدّى أن تكون "تمرينًا"، يهدف إلى بثّ الرعب في نفوس العسكريين ورجال الأمن التونسيين، والتهيئة لعمليات أخرى أكثر أهمّيةً منها، استعدادًا لبسط السيطرة على المنطقة في المستقبل. أمّا القراءة الثانية، فترى أنّ الهدف المباشر للعملية كان متمثّلاً بالسيطرة على المدينة، وتحويلها إلى قاعدة آمنة للتنظيم، في حال التضييق عليه في ليبيا، أو في حال توجيه ضربةٍ عسكريةٍ ضدّ معاقله فيها. وفضلاً عن ذلك، يمكن للتنظيم، عبر السيطرة على هذه المدينة، الانتشار والتمدّد في اتجاه الجنوب التونسي، علماً أنّ عددًا كبيراً من مقاتليه يستقرون في الغرب الليبي. ويؤيد هذه القراءة توجّه المهاجمين المسلّحين في وقتٍ متزامن إلى الثكنة العسكرية وثكنات الحرس والشرطة؛ من أجل القضاء على وجود القوى الأمنية الرسمية، وانتزاع أسلحتهم، ثمّ الاتجاه نحو المعتمدية (مقر الإدارة المحلّية) لرفع العلم الأسود (العُقاب) فوقها، وإعلان الإمارة. أمّا الخطوة الثالثة، فكانت محاولة السيطرة على المحكمة الابتدائية، وإعلانها مقرّاً للمحكمة "الشرعية"، وهو أمرٌ أكّدته حيثيات العملية واعترافات العناصر التي تمّ القبض عليها في تونس.

عمق اختراق التنظيم لتونس
بلغ عدد القتلى من المهاجمين 49 قتيلاً، وبلغ عدد الموقوفين 30 شخصاً، وقد تمّ تعرّف
هويات 22 جثةً جميعها من الجنسية التونسية، كما تمّت معرفة أنّ أحد القتلى جزائريّ الجنسية. ولا تتجاوز أعمار أغلب المهاجمين 35 عاماً. أمّا العناصر الأكبر سنًّاً، فكانت مهمتها التنسيق بين المجموعات المقاتلة المسؤولة عن التنفيذ والقتال. ويبدو أنّ أغلبية هؤلاء هم من مدينة بنقردان، أو ممّن استقروا فيها فترات طويلةً؛ إذ كانوا على معرفة بشوارعها وأسماء الأماكن والأشخاص. لذلك، قصدوا بيوت بعض ضباط الأمن، واغتالوا رئيس فرقة مكافحة الإرهاب أمام بيته، أو ربما استعانوا بالخلايا النائمة التي تُعد في الجنوب التونسي بالعشرات، كما هو الشأن في مناطق أخرى من البلاد التونسية.
وبحسب مصادر عديدة، يحتل التونسيون المرتبة الثانية، من حيث العدد في صفوف تنظيم الدولة، وهم يقاتلون مع التنظيم في العراق والشام. وفي منتصف ديسمبر/ كانون أول 2014، وجّه التنظيم أوّل رسالة مباشرة له إلى السلطات والشعب في تونس. وقد أعلن التنظيم، في شريط فيديو، مسؤوليته عن اغتيال المعارضيْن، شكري بلعيد ومحمد براهمي، داعياً التونسيين إلى "مبايعة الخليفة أبو بكر البغدادي". وفي السابع من إبريل/ نيسان 2015، دعا أبو يحيى التونسي من "ولاية طرابلس" التونسيين إلى التوجه إلى ليبيا، للتدرب من أجل إقامة الخلافة الإسلامية في تونس. وبعد التدخل الروسي في سورية، انتقل عدد كبير من مناصري التنظيم التونسيين إلى ليبيا، والتحقوا بمجموعاتٍ تونسيةٍ أخرى، أقامت معسكرات في عدّة مناطق ليبية، يسيطر عليها "داعش". كما تبنى "داعش" لاحقاً عبر ذراعه الإعلامية "أجناد الخلافة في إفريقيا"، عدّة هجمات ضدّ الجيش التونسي في جبل السلوم، فضلاً عن تبنّيه، في 18 مارس/ مارس 2015، هجمات على متحف باردو (أسفرت عن مقتل 22 شخصًا، بينهم 21 سائحًا أجنبيًّا)، وأحد الفنادق السياحية في مدينة سوسة الساحلية (أسفرت عن مقتل 38 شخصًا، معظمهم من السياح البريطانيين)، وتفجير حافلة الأمن الرئاسي في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 (أسفرت عن مقتل 12 من عناصر الحرس الرئاسي).

خصوصية العملية
تختلف عملية بنقردان عن العمليات السابقة التي قام بها التنظيم، بالنظر إلى أنّ تلك العمليات كانت إمّا اغتيالاتٍ أو تفجيراتٍ أو استهدافًا لمناطق سياحية، في حين كانت هذه العملية محاولةً للسيطرة على مقارّ السيادة في المدينة الحدودية. وتمثّل هذه العملية، في ما يبدو، امتدادًا لمحاولاتٍ سابقةٍ، كان مصيرها الإخفاق، وكانت واشنطن قد أعلنت أنّ القصف الجوي الأميركي الذي استهدف في 19 فبراير/ شباط الماضي مقارّ لتنظيم الدولة الإسلامية في صبراتة (غرب ليبيا، نحو 70 كيلومتراً عن الحدود التونسية) قد أدّى إلى مقتل نحو 50 شخصاً، أغلبهم تونسيون. وذكرت أنّ هذه الضربة حالت دون وقوع هجومٍ، كان يجري العمل على الأرجح لتنفيذه في تونس، وهو ما جعل بعضهم يرى أنّ عملية بقردان تمثّل "انتقاماً لتونسيّي صبراتة"، وربما تنفيذ ما حاولت الضربة الأميركية أن تحول دونه.

التداعيات المحتملة
من المؤكد أنّ هذه الهجمات تمثّل تهديدًا كبيراً للديمقراطية التونسية الوليدة، فهي تعزّز التوق
إلى الاستقرار، كما أنها تعزّز تقوية مكانة الأجهزة الأمنية التي قد تصبح، بالتدريج، فوق النقد، وربما تعود لتكون فوق القانون. ومن المحتمل أن تسعى الأجهزة الأمنية، المستاءة إلى الاستفادة من هذه الهجمات، إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وكانت "النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي" قد دعت أعضاءها إلى "إعلان يوم الغضب الأمني المفتوح"؛ للتعبير عن استيائهم من عدم نزول الحكومة عند رغبتهم، بشأن زيادة رواتبهم. وإنفاذًا لهذه الدعوة، اقتحم المحتجون من عناصر الأمن قصر الحكومة في القصبة، وسط العاصمة تونس، يوم 25 فبراير/ شباط 2016، مردّدين شعارات مناهضةً للحكومة ورئيسها. ومن ناحية أخرى، تترقب قوى الدولة العميقة وأركان النظام القديم في تونس تداعيات هذه الهجمات، وتطمح إلى إعادة تقديم نفسها، بوصفها الأقدر على التعامل مع هذه التهديدات الأمنية، من جهة أنّ الحكومة الحالية غير قادرة على ممارسة دورها في حفظ أمن الدولة والمجتمع. أمّا من الناحية الإقليمية، قد تؤدي هذه الهجمات إلى تغيير موقف تونس الرافض أيّ تدخل عسكري خارجي في ليبيا؛ ذلك أنّ الهجمات الأخيرة ضاعفت مخاوف التونسيون من الخطر الذي قد ينتظرهم، في حال استفحال نفوذ تنظيم الدولة في ليبيا، من دون اتخاذ ما يلزم من إجراءاتٍ لمواجهته.
على أنّ ذلك لا يُعفي الحكومة التونسية من مسؤولية وضع إستراتيجيةٍ متكاملةٍ، قابلة للتنفيذ للحدّ من قدرة تنظيم الدولة وغيره من التنظيمات المتطرفة على التجنيد بين أبناء الفئات الفقيرة والمهمشة في بنقردان وغيرها، ولا يكون مثل هذا الأمر من خلال اليقظة الأمنية فحسب، بل من خلال مزيدٍ من التنمية، ومزيدٍ من الحريات والممارسة الديمقراطية أيضاً.