إبقاء القضية الفلسطينية حية

إبقاء القضية الفلسطينية حية

14 مارس 2016
+ الخط -
تتواصل عمليات طعن إسرائيليين في فلسطين المحتلة، ويتزايد القلق الصهيوني. انتفاضة "السكاكين" زرعت الرعب في صفوف المستوطنين، وأنتجت خسائر بشرية صهيونية، تُقدر بعشرات القتلى ومئات الجرحى في الأشهر الستة الماضية. هبّة عفوية في الضفة الغربية تكشف الكثير عن واقع القضية الفلسطينية اليوم، وهي تمر ربما بواحدةٍ من أسوأ مراحلها، وعلى الرغم من أن المراحل السابقة لم تكن إيجابية في العموم، إلا أن حالة الفوضى والضياع العربيتين تنطبقان على القضية الفلسطينية أيضاً، حيث غياب الرؤية يهيمن على المشهد، وعدم القدرة على تحديد أهدافٍ واضحةٍ للعمل الوطني الفلسطيني، تلقي بثقلها على كاهل جميع القوى الفلسطينية، وما يمكن أن نفهمه من هبّة الشباب العفوية هو انفجارٌ واعتراضٌ على مجمل الوضع الفلسطيني الحالي الذي قاد إلى عملية تجريف للعنصر العربي الفلسطيني من الضفة، لمصلحة المستوطنين الذين لم يتوقف غزوهم أراضي الضفة الغربية، طوال السنوات الماضية، بعد اتفاقية أوسلو.
وصل المسار التفاوضي المرتبط بما يسمى عملية السلام إلى جدارٍ سميك، يشبه الجدار العازل الذي بناه الاسرائيليون في الضفة، ومع إسقاط السلطة الفلسطينية خيار الكفاح المسلح، بل وحتى ما يعرف بالنضال السلمي، لم يبقَ سوى التفرّج على الاسرائيليين، وهم يتلاعبون بالواقع الفلسطيني، ويشجعون الاستيطان في قلب الضفة الغربية، ويحاصرون غزة ويعاقبونها، لعدم انصياعها في الحروب المتوالية. لم يعد أي طرفٍ يكترث بإحياء مسار التسوية، ولو بالخطاب الإعلامي والشعارات وإلقاء الوعود في الهواء، وقد سلّم الأميركيون بإدارة نتنياهو الملف الفلسطيني، وعلى الرغم من "ضجر" أوباما من صلف نتياهو، إلا أنه ترك له عملياً فعل ما يريد، ولم يضغط عليه لإيقاف الاستيطان، أو الدخول في أي مفاوضات، ما جعل خيار السلطة الفلسطينية (ومن ورائها النظام العربي الرسمي) الاستراتيجي والوحيد في مهب الريح.

تراوحت المواقف العربية من القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة بين الخذلان والتآمر، وتعامل النظام العربي الرسمي مع القضية الفلسطينية، بوصفها عبئاً يُراد التخلص منه بأي ثمن، وإنهاء الأزمات التي تصنعها، لكن هذا الاندفاع نحو إيجاد حلٍّ بأي ثمن خفَّ في السنوات الأخيرة، نتيحة تصدّع عددٍ، لا بأس به من الدول والأنظمة، والتي كان أحد أسباب تآكل شرعيتها هو انتهاء أي غطاء أيديولوجي يتعلق بفلسطين، واعتبارها القضية الفلسطينية شأناً خاصاً بالفلسطينيين، وتخوفها من أي مشروعٍ سوى حفظ أمن السلطات الحاكمة. توقف الاندفاع نحو حل القضية الفلسطينية مع الانشغال العربي (والدولي أيضاً) بملفاتٍ أخرى في المنطقة، وحتى الجماهير العربية المتعلقة وجدانياً بفلسطين، باتت بعيدةً عنها في ظل انشغالها بمشكلاتٍ أخرى.
الأسوأ أن لا خيار آخر أمام النخبة التي تتحكم بالقرار الفلسطيني، وهي نخبة عاجزة ومتكلسة، وربما لم تمر على القضية الفلسطينية حالة عجزٍ في استيلاد قيادات كارزمية، أو مؤثرة، كما هو الحال اليوم فيما يخص السلطة الفلسطينية، بل إن أكثر القيادات عجزاً، واستعداداً للتنازل عن كل الحقوق الفلسطينية، والضرب بمصلحة الشعب عرض الحائط، هي التي تقف على رأس السلطة، وهي لا تملك غير استجداء الإسرائيليين، والشكوى والتضجر من عدم الاستجابة، فيما لا تقوم بأي عملٍ للضغط على الصهاينة، لا من ناحية الحراك الداخلي، ولا لناحية تفعيل العلاقات الدولية والتعاطف العالمي مع القضية الفلسطينية، وكسب أصدقاء لفلسطين، يعملون على عزل الصهاينة دولياً، بل تستجيب هذه النخبة لمطالب الأميركيين بعدم التصعيد، من دون أي مقابل.
العجز في النخبة الفلسطينية هو نفسه العجز في إيجاد نخبٍ عربية لديها تصور أو مشروع لتحقيق مصالح العرب، والتعاطي مع الملفات الساخنة في منطقتنا. الارتماء في حضن الولايات المتحدة، والحديث عن امتلاكها الغالبية الساحقة من أوراق اللعبة، على ما قال الرئيس أنور السادات، أضرّ بالقضية الفلسطينية، وخسر الفلسطينيون والعرب أصدقاء آخرين، ولم يكسبوا شيئاً ملموساً من أميركا وإسرائيل، فكانت النتيجة حالة التيه الراهنة.
لا يمكن طرح المصالحة الداخلية بين القوى الفلسطينية بوصفها حلاً سحرياً، فإن لم تقم المصالحة على توحيد الأهداف والخيارات الاستراتيجية، وإنهاء حالة التناقض بين قوىً تتبنى الكفاح المسلح خياراً، وأخرى تقف ضده بالمطلق، لن يكون مشهد المصالحة أكثر من "تبويس لحى"، ينتج توافقاً هشّاً سرعان ما ينهار أمام أول تحدٍّ. المشكلة اليوم هي في خيارات النخبة الفلسطينية ضمن الواقع الذي تعيشه، وليس هناك من يراجع خياراته لينتبه إلى أن مشروع التنازل وصل إلى منتهاه بانهيار أي إمكانية لحل الدولتين، في ظل استمرار الاستيطان وتجريف مقومات بناء "دويلة" فلسطينية.
الشبان والفتيات الذين انتفضوا بسكاكينهم كانوا يصرخون في وجه عجز النخبة الفلسطينية، ويقومون بما يجب القيام به في واقعٍ عربي منهار كالذي نشهده: التذكير بقضية فلسطين وإبقائها حية، وسط الفوضى والدمار وضياع الأولويات، وهو، كما المقاومة في غزة، تعبيرٌ عن رفض تصفية القضية الفلسطينية، واحتجاج على غياب المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، وتغييب العرب عن مسؤوليتهم تجاه فلسطين، وأي مشروع تحرّري فيها. إن رفض تصفية قضية فلسطين هو أهم ما تفعله سكاكين أبطال الضفة في هذه المرحلة، وهو ما يجب أن يدعمه من بقي من العرب حريصاً على قضية فلسطين.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".