التعريب ضرورة حضاريّة

التعريب ضرورة حضاريّة

13 مارس 2016

لوحة للفنان منير الشعراني

+ الخط -
تعدّ حركة التّعريب رافداً مهمّا من روافد نشر اللّغة العربيّة، وضمان استمرارها، فالتّعريب باعتباره إيجاد مقابلات عربيّة للألفاظ الأجنبيّة يهدف، إلى تعميم اللغة العربيّة واستخدامها في ميادين المعرفة البشريّة كلّها. وفي ذلك إغناء للغة الضّاد، وإثراء للرّصيد المعجميّ والزّاد المعرفي للمتكلّم العربي، فالتّعريب سبيل إلى التمكّن من أسباب العلم وإلى استيعاب الفكر الوافد وإعادة صياغته في قوالب عربيّة، ما يسهم في إحياء اللّغة العربيّة، وفي تنشيط عمليّة التّفاعل مع الآخر، وفي مدّ جسور التواصل بين الهويّة الذاتيّة والمشهد الحضاري الكوني.
وقد ازدهرت حركة التّعريب مع بدايات النّهضة العربيّة، إبّان حكم محمّد علي في مصر، فبعد انتباه العرب والمسلمين إلى التطوّر المشهود في بلاد الغرب، زمن الثّورة الصناعيّة وإبّان الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، انصرفوا ينهلون من ينابيع العلوم الغربيّة الحديثة، وعملوا على تعريب ما أمكن في مجالات الطبّ والصّيدلة والكيمياء. وكان المراد المحافظة على سيادة لغة الضّاد، وضمان استمرارها في مواجهة الهيمنة اللغويّة والثقافيّة للمستعمر من ناحية، والعمل على مواكبة اللّسان العربي لمنتجات العصر الصّناعي الجديد من ناحية أخرى. والملاحظ أنّ دولة الاستقلال في البلاد العربيّة أولت العربيّة اهتماماً بيّناً، فقد تضمّنت معظم دساتير الأقطار العربيّة الوليدة النصّ على اعتبار اللّغة العربيّة اللّغة الرسميّة للدّولة، والمعتمدة في المؤسّسات الإداريّة والتربويّة والماليّة، لكنّ الواقع يخبر أنّ تعريب المؤسّسات الحيويّة في الدّولة، وتفعيل حركة التّرجمة إلى العربيّة، مشروع مازال ينتظر التّفعيل الإجرائي والإمضاء الجدّي، فجهود التّعريب متفاوتة من قطر إلى آخر، ولا نكاد نجد خطّة قوميّة عربيّة موحدة، تهدف إلى ترسيخ التّعريب وإلزام الأقطار العربيّة باعتماده.
والحال أنّ التّعريب ضرورة حضاريّة، وحاجة وجوديّة الآن وهنا، فكسب معركة التقدّم والفعل
في مجتمع الحداثة لا يكون إلاّ بالتّمكين للّغة العربيّة في مجالات المعرفة الإنسانيّة المختلفة، فمن لا ينفتح على العالم، ولا يواكب التطوّر المشهود في مختلف المجالات العلمية والاتصالية بلغته، يبقى خارج التاريخ لا محالة. ذلك أنّ العلاقة ضروريّة بين كينونة الفرد وفاعليّة اللّغة، فالإنسان باعتباره كائناً ناطقاً لا يستوي فاعلاً بامتياز في الاجتماع الإنساني إذا لم تكن لغته مواكبةً لأحداثات العصر، قادرة على تمثّل مستجدّات الظّرف التّاريخي الذي ينتمي إليه، فاللّغة هي وسيلة تعبير وقول ووجود وأمارة كينونة، فبحياتها يحيا الإنسان، وباستمرارها تستمرّ الجماعة البشريّة، وبها يعبّر الناس عن أحوالهم، وعن سيرورة معاشهم، وبها يشيع إبداعهم، وينتشر فنّهم، وذلك كله لا يكتسب خصوصيّته وفرادته وامتيازه، إلا إذا ورد بلغة المبدع، وعبّر عن هويّته المخصوصة وخلفيّته الثقافيّة المميّزة، مما يسمح له بتقديم الإضافة إلى الآخر، والتّحاور معه لغويّا وثقافيّا وحضاريا.
والملاحظ أنّ التّعريب، على أهمّيته تلك، لم يأخذ بعدُ مداه المأمول في السّياق العربيّ المعاصر، فقد أدّت العولمة اللغويّة إلى هيمنة اللّغتين، الإنجليزيّة والفرنسيّة، على التّداول اللّساني في البلاد العربيّة، شفويّاً وكتابيّاً، وانحسر التّعريب في المستوى الأكاديمي والمؤسّساتي الرّسمي، ولم يترجم إلى واقع عمليّ يحياه المواطن العربيّ، ويطبّقه في مختلف مناحي الحياة الفنّية والإبداعيّة والعمليّة، وفي مقامات التواصل اليوميّة داخل المؤسّسة الإعلاميّة أو التعليميّة وخارجها. وتوضح أبحاث علميّة حول الاتّصال اللّغوي في منطقة الخليج العربي أنّ الإنجليزيّة تحتلّ المرتبة الأولى في التّخاطب اليومي، يليها هجين لغوي من العربيّة والإنجليزيّة. كما أنّ مسار التّعريب في المغرب العربي ما زال متعثّرا، فمقرّرات كثيرة في المناهج في المؤسّسات التربويّة والجامعيّة تُدرّس باللّغة الفرنسيّة، وخصوصاً الموادّ العلميّة، من قبيل الطبّ والكيمياء والفيزياء والاقتصاد والصّيدلة، والمؤسّسات الإعلاميّة تزاوج بين استخدام اللّغة العربيّة واللّهجات المحلّية أو اللّغات الأجنبيّة، مما أسهم في إنتاج جيل هجين لغويّاً، لا يكاد يمتلك هويّة لغويّة خاصّة به. وجاء في تقرير التّنمية الثامن عشر الصّادر عن البنك الدّولي في سنة 1998/ 1999 أنّه "على البلدان النّامية، ومن بينها الدّول العربيّة، أن تتّخذ خطوات ثلاثاً لتضييق فجوة المعرفة وهي: الحصول على المعرفة، استيعاب المعرفة، نقل المعرفة".
هذه الخطوات يمكن أن تجد سبيلها إلى الإنجاز في الواقع، إذا تمكّن المواطن العربي من لغة الذّات ولغة الآخر على السّواء، وأحسن تمثّل اللّغات الطبيعيّة واللّغات الخاصّة بمجالات العلوم والتّقانة، واستيعاب المعرفة وتطويعها لإنماء الذّات، لغويّاً وثقافيّاً وحضاريّاً، فالتقدّم ممكن بفهم ماهية الأشياء والظّواهر، ومعرفة عللها وكيفيّات انتظامها، وذلك لا يكون إلاّ بالإمساك بناصية اللّغة التي صيغت بها الأفكار والعلوم، والظواهر المدروسة، والعمل على نقل تلك المعارف إلى لغة الأنا، قصد المساهمة في بناء الذّات الحضاريّة للفرد والجماعة، وقصد العمل على توطين العلم وأسباب المعرفة في تربة عربيّة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.