عندما تتحفظ روسيا على التطبيع بين تركيا وإسرائيل

عندما تتحفظ روسيا على التطبيع بين تركيا وإسرائيل

29 فبراير 2016

أتراك يتضامنون في أنقرة مع الأسرى الفلسطينيين (4 مايو/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -
أورد موقع صحيفة هآرتس الإلكتروني، الخميس 18 فبراير/ شباط، أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أبلغ المدير العام للخارجية الإسرائيلية، دوري غولد، الذي زار موسكو الأسبوع الماضي، تحفظ بلاده على المساعي الجارية الآن من أجل تطبيع العلاقات بين إسرائيل وتركيا، وتتضمن التحفظات رفض بيع الغاز الإسرائيلي لتركيا، ورفض إعطاء أنقرة موطئ قدم في غزة. وفي العموم، إن اعتبار أي تطبيع بمثابة تحسين في وضع أنقرة الإقليمي أمر لا تقبل به موسكو، في ظل الصراع المحتدم بينهما في الفترة الأخيرة.
يمكن قراءة تحليل الموقف الروسي المفاجئ، أو محاولة تحليله، شكلياً فقط، بوضعه في عدة سياقات، أوّلها اندراجه ضمن المواقف المتعجرفة والمتغطرسة لروسيا، أخيراً، والتي تتماشى مع الطبيعة الشخصية للرئيس فلاديمير بوتين، أو تنسجم معها، وتنعكس في السياسات أو المقاربات الروسية للقضايا والمستجدات في المنطقة.
ثمة سياق آخر يتعلق بنزوع روسيا (أو تصورها لنفسها) إلى اعتبارها قوة عظمى عالمية، ما يعطيها الحق في حشر أنفها، أو إبداء رأيها في التطورات المستجدات والخلافات في المنطقة والعالم، وهذا لم يحصل فقط نتيجة تدخلها الفظ والهمجي في سورية، وإنما نتيجة إقرار واشنطن بتداعيات هذا التدخل، بل والاعتراف به، والعمل مع موسكو على حل سياسي للقضية السورية، وهو ما لم تفعله إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في أوكرانيا مثلاً.
وفيما يخص التحفظات الروسية المباشرة على مساعي التطبيع التركي الإسرائيلي، يبدو أن موسكو تفهم أو تعتقد أن التطبيع، في حال حدوثه، سيؤدي إلى تحسين وضع أنقرة الإقليمي، وبالتالي، زيادة الأوراق في يديها، في مواجهة خلافهما المتصاعد، في الفترة الأخيرة. ومن هذه الزاوية، يمكن النظر أيضاً إلى الرفض أو الطلب من تل أبيب عدم تزويد تركيا بالغاز، لكي تحافظ روسيا على مكانتها المركزية في سوق الغاز التركية. وبالتالي، إمكانية استخدامه سلاحاً في حال احتدام الصراع بين البلدين. كما قطع الطريق على فكرة مدّ أنبوب تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، عبر الأراضي التركية، ما يكسر أيضاً الاحتكار الروسي لسوق الغاز في القارة العجوز، علما أن مشروع تاناب-لنقل الغاز الأذري إلى أوروبا، عبر الأراضي التركية، يمضي على قدم وساق، وسيكون جاهزاً للعمل، بعد ثلاث سنوات تقريباً.
بدا غريباً أيضاً التحفظ الروسي تجاه استعداد أنقرة للعب دور مهم في رفع الحصار عن غزة، ومدّها بما تحتاجه من مواد، لإعمار ما دمرته الحرب، بل الحروب الأخيرة، ولا يقل عن ذلك أهميةً نية أنقرة حل مشكلة الطاقة الكهربائية المزمنة، وبشكل جذري، كما إعادة تأهيل البنى التحتية المنهارة من مياه وطرق ومواصلات، والتأكيد على أنها لا تحتاج إلى أكثر من ستة أشهر، أو سنة، بالحدّ الأقصى، لجعل غزة كأي منطقة أو حيّ من أحياء اسطنبول المزدهرة والمتطورة.
في هذا السياق، وبعيداً عن تحسن وضع أنقرة الإقليمي، عبر لعب دور مهم في غزة، والملف الفلسطيني بشكل عام، تبدو موسكو حريصة على تفهّم التحفّظ المصري على التطبيع التركي الإسرائيلي، أو مجاراته، كما إعطاء تركيا موطئ قدم في المنطقة، باعتبارها ساحةً خاضعةً للوصاية أو الرعاية المصرية، والتقرب أو استغلال روسيا الموقف المصري، لا يهدف فقط إلى الضغط على إسرائيل، للتوقف عن مساعيها، وإنما أيضاً إلى إبعاد القاهرة عن أنقرة، كما عن الحلف الجديد المتبلور بينها وبين الرياض، المناوئ لموسكو في سورية والمنطقة، بشكل عام، علماً أن روسيا تفهم الثقل السياسي للقاهرة، ومغزى أو تداعيات الانخراط في الحلف السعودي التركي والتحالف العربي الإسلامي لمحاربة الإرهاب المصرّ، والساعي إلى إسقاط الأسد، خطوة ضرورية ولازمة على طريق هزيمة "داعش" وأخواته من التنظيمات الإرهابية في المنطقة.

هل ستأخذ إسرائيل بالتحفظات الروسية، وتعزف عن فكرة التقرب والتطبيع مع تركيا؟ ليس بالضرورة، خصوصاً أنها، أي تل أبيب، تتصرف أيضاً بحسبان نفسها قوةً إقليمية عظمى، وتعرف أن موسكو في حاجة إليها، لتخفيف التصعيد في الموقف الأميركي ضدها، وربما حتى المساعدة في إمكانية تخفيف العقوبات الغربية ضدها. وإضافة إلى ذلك، تبدو واشنطن الحليفة الأقرب والأوثق لتل أبيب، على الرغم من كل الخلافات، متحمسة جدّاً لفكرة إصلاح العلاقات مع أنقرة، عبر جهودٍ، يتولاها نائب الرئيس، جو بايدن، شخصياً.
أمر آخر قد يدفع تل أبيب إلى تجاهل التحفظات الروسية، ويتعلق بالمستجدات الأخيرة في سورية، ونزوع موسكو إلى التذاكي، وتجاوز القاعدة التي دفعت تل أبيب، وحتى واشنطن نفسها، للتغاضي عن تدخلها العسكري في سورية، والمتمثلة بمنع سقوط النظام، والعمل على تسويةٍ سياسيةٍ، تحفظ مصالح روسيا، وتحمي الدولة ومؤسساتها، ولكن من دون الأسد، وهي القاعدة التي تم تجاوزها، عبر استخدام الخيار الشيشاني ضد المعارضة المسلحة، وكسر قواعد اللعبة، بما يؤدي إلى فوضى غير منظمة، بدل الستاتيكو الذي كان قائماً، وربما حتى زيادة التطرّف، مع شعور شرائح واسعة من الشعب السوري بالغبن والظلم والتمرد على الوضع، بإطلاق النار على الجميع.
معطى ثالث قد لا يكون أيضاً في صالح موسكو وتحفظاتها، يتمثل بالحديث الإسرائيلي عن اقتراب موسكو أكثر مما ينبغي من طهران وحلفائها، واعتبار انتصارات بقايا جيش الأسد ومليشيات طهران الشيعية بمثابة خطرٍ محتملٍ، وتقويةٍ لا داعي لها للمحور المعادي، ولو شكلياً لإسرائيل التي سعت، دوماً، لمنع سقوط النظام وانتصار المعارضة، لإبقاء معركة الاستنزاف السورية مفتوحةً، إلى أبعد مدى زمني ممكن.
إلى ذلك، لا يلعب الدور السعودي المتنامي في المنطقة في صالح موسكو، حيث تعتقد تل أبيب أن الرياض جادة في مجابهة الهيمنة الإيرانية، وتبجح الأخيرة باحتلال أربع عواصم عربية، وتل أبيب تفهم طبعاً أن الرياض دخلت في طور التنسيق، بل التحالف، مع أنقرة، ولا ترفض ضمنياً أي إنجاز أو تحسين لوضعها الإقليمي.
معطى مهم أخير في الموقف الإسرائيلي يتعلق بتصدير الغاز إلى تركيا، وهو الأمر الذي تحدث عنه رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، مباشرة أمام المحكمة العليا، في أثناء مرافعته غير المسبوقة، دفاعا عن خطة الغاز الحكومية أو البعد الأمني الاستراتيجي لها، والمتمثل في تحسين وضع إسرائيل السياسي الأمني، عبر تصدير الغاز إلى دول عربية إسلامية، مثل الأردن ومصر وتركيا. ومعلوم طبعاً أن السوق التركي هو الأكثر اتساعاً وجدوى، ناهيك عن إمكانية استخدام البني التحتية الممتازة فيها، لتصدير الغاز إلى أوروبا، بدلا من الخط القبرصى اليوناني الباهظ التكلفة والمحفوف بالمخاطر.
عموماً، وعلى الرغم من مسارعة موسكو، بعد زيارة دوري غولد، إلى تأجيل آخر لصفقة صواريخ أس 300 لإيران، فيما يعتبر غمزة أو إيماءة لتل أبيب، إلا أن الأخيرة، وإذا ما قرّرت أن مصلحتها، ولو المرحلية، تقتضي التطبيع مع تركيا، لدوافع استراتيجية اقتصادية، وسياسية تتعلق بالمشهد العام في المنطقة، أو حتى لنزع فتيل قنبلة غزة، ومنع لانفجارها المحتمل في وجه إسرائيل والجيران الآخرين، كما قال تقدير جهاز المخابرات العسكرية أمان، فستمضي في الصفقة حتى النهاية. ومن ثم إقناع، وحتى إجبار الآخرين على الاقتناع بها.