حين يوقظك كيري من النوم

حين يوقظك كيري من النوم

25 فبراير 2016

جاء كيري أم ذهب لا يتغير شيء (23 فبراير/2016/Getty)

+ الخط -
أيقظتني صبية صباحاً، برنين هاتف عنيد، وطلبت مني "لقاءً" على إحدى الفضائيات، للحديث حول زيارة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري الأردن. قبل أن أعتذر، وصلت الرسالة إلى الصبية، من نبرة صوتي، فانسحبت بهدوء، معتذرة عن إزعاجي.. وأنا انزعجت من إيقاظي مبكراً، ومن الطلب أكثر.
هذه طبعاً ليست المرة الأولى التي يطلب مني مراسلون الحديث حول "شؤون الساعة"، ولا أذيع سراً أن هاتفاً آخر جاءني من ما وراء البحار، وأنا أكتب هذه الفقرة، للطلب نفسه، ولصالح قناة أخرى أحترمها، واعتذرت أيضاً، ليس لأنني زاهد في الظهور الإعلامي، ولا لأنني مترفع عن التعاون مع زملاء المهنة، بل لشعوري بقرف فائض عن قدرة أي احتمال من فرط عبثية المشهد، وخصوصاً، أنني بحكم المهنة، أتابع بشكل حثيث كل ما يجري حولنا، وأرى فيه ضرباً من الفنتازيا البائسة، فكل "المتغيرات!" تبدو تكراراً لمشاهد أخرى، مررنا بها خلال حياتنا الصحفية، ولكن، بمزيد من الدموية والقتل والتسلط والاستبداد، والنقطة المركزية في هذا كله، أن هذه المنطقة من العالم التي تسكننا، ولا نسكنها فحسب، أشبه ما تكون بذبيحة، تتقاسمها وحوش، جائعة، مفترسة، وأقارب "الضحية" وإخوانها وعشيرتها يتسابقون لتقديم المقبلات، وحمل "البشاكير" وصب الماء على أيدي الأكلة، تماماً، كما نفعل في بلاد الشام، في أثناء حفلات المناسف و"العزايم" لضيوفنا، مع فارق كبير في التشبيه، لكن الموقف يستدعي الموقف، وكل مقارنة عرجاء، كما يقول المثل الألماني.
جاء كيري أم ذهب، بل لم جاء أصلاً، نغوص دائماً في تفاصيل الحدث، وتستهوينا اللقطات التي "يصطادها" المصورون، وخلف الصور، تكمن الحقائق العارية، الجارحة، نحن عرباً ومسلمين، لم نعد بحاجة لساسة عقلاء أكثر من اللازم، أصبحنا بحاجة أكثر من ماسة لساسة "مجانين"، يتكلمون مرة واحدة من حناجرهم هم، وليس من حناجر الآخرين، ولا يكونون مجرد "بيادق" على حجارة الشطرنج، حيث اللاعبون "الكبار" يعبثون بهم، وحينما يملون، يقلبون الطاولة، ربما بدافع الضجر من رداءة البيادق نفسها.
بصراحة، وأنا أتأمل كل ما يجري، لا يثير إعجابي شيء، ولا يحرك داخلي عرق حي، غير مشهد واحد، فقط لا غير: فتى أو فتاة، طفل أو شاب، يلقن المحتلين الصهاينة درساً في الذعر، بسكين أو مقص أو مسمار، وسوى ذلك، ليس أكثر من "تمثيل" ممل، أو بروفات مكرورة، لمسرحيةٍ داعرة، اهترأ الممثلون فيها، وبانت عوراتهم القبيحة، وآن لهم أن يذهبوا إلى الجحيم، بل إن هذا الجحيم سيكون مكانا رائعا للعيش، إن لم يكونوا فيه.
جاء كيري أم ذهب، لا جديد، فهو لم يأت لتضميد جراح لاجئ سوري، أو المسح على رأس
يتيم دمشقي، جاء فقط ليقول لنا: طز فيكم، يا أهل هذه البلاد الذين لم تزالوا بعد قادرين على استقبالي، واحتمالي، فقد جاء ليعلن أنه و"زميله" الروسي اتفقا على بدء "هدنة" في سرة الشام سورية، أو بالأحرى "وقف العمليات العدوانية" ابتداء من منتصف ليلة السبت. لاحظوا "سخافة" المشهد: كيري ولافروف، وهدنة في سورية! ولا صوت لعربي، أو مسلم، كأن الدم المسفوح في بطاح قاسيون ليس عربياً، ولا مسلماً، وكأن لا دخل لأهل هذه البلاد بها، من الذي يموت إذا؟ هكذا تبدو الصورة بمنتهى الافتضاح: لسنا أكثر من ساحةٍ لتجريب أسلحتهم الجديدة، وتنشيط تجارة الموت، ولا يهم أن يموت مائة سوري في اليوم منذ أعوام.
أيقظني كيري من حلم جميل، حلمت فيه، في أن يأتي وقت، "أعتذر" فيه عن لقائه إلى أجل غير مسمى، لأنني مشغول بما هو أهم من لقائه: المشاركة في احتفال بهدم سجن عربي وبناء مكتبة أو مستشفى أو حديقة أطفال، أو متنزه، أو قص شريط في افتتاح توسعة جديدة في المسجد الأقصى المبارك، أو تدشين بناء برلمان جديد، يقول الناس فيه رأيهم، ويُجلِسون على مقاعده مواطنين اختاروهم اختياراً حراً مباشراً، كي يكونوا صوتهم الحقيقي، لا مجرد "ممثلين" رديئين لمخرجٍ يقف خلف الكواليس، يأمر وينهي، ويشتم ويعربد، كما يشاء، ويختار من يريد لتأدية دور ما يُريد، لتحقيق ما يريد.
كيري، وغيره، للمرة الألف أو يزيد، يأتون ويذهبون، وتُمد تحت أرجلهم السجادات الحمراء التي أخذت لونها من دمائنا، ولا شيء جديد، فقط المزيد من الموت والضياع والتبعية و"الاستحمار"، لا الاستعمار فقط، بألوان وأشكال جديدة، ألم يحن الوقت لأن نرى مِنْ بين جوقة "الممثلين" من يتمرّد على "دوره"، ويركل "المخرج" بالحذاء؟ ألا يشتاق ذلك الكومبارس البائس أن يؤدي دور "البطولة" مرة واحدة في حياته، ليرحل بطلاً، لا خائناً أو عميلاً؟