بين الصقور والحمائم

بين الصقور والحمائم

13 فبراير 2016
+ الخط -
هناك فئة من البشر يعيشون معظم حياتهم في معاناة وكدر دائميْن، والمؤسف ألا تكون المعاناة والكدر بسبب أخطاء أو خطايا ارتكبوها، بل أحياناً بسبب عدم ارتكابهم إياها. إنهم يحظون بعدم رضى أطراف عديدة، وهم من يتلقون اللعنات واللكمات من هنا وهناك، ليس بسبب تخاذل أو انتهازية أو مخالفة للمبادئ، بل للأسف بسبب رفض الانتهازية، وتمسكهم بمبادئهم.
إنه الفريق الذي دائماً يُلقى عليه اللوم من الطرفين، لأنه لا يعتقد أن أيًّا منهما يمتلك الحقيقة المطلقة، أو على صواب تام، أو هو الفريق الذي يحاول الوصول إلى حل وسط، أو وقف النزيف، أو إزالة العقدة من المنشار، لا ينحاز لطرف من الطرفين، وإنما للقيم، ويظل يذكّر بها، فلا يلقى ذلك قبول الطرفين. ولذلك، يتلقى دائماً الاتهامات المعلبة بالخيانة والتخاذل. إنه الفريق المتمسك بالقيم المدنية الحقيقية فعلياً، القيم التي يمكن اعتبارها مقياساً للمدنية والتحضر والرقي والتقدم، مثل التسامح وقبول الآخر وثقافة الحوار وإدارة الصراعات سلمياً، إنهم المعتدلون أو الوسطيون الذين يطلق عليهم لقب الخونة، أو الطابور الخامس.
ليس هذا الأمر مقصوراً على مصر، بل حدث وتكرّر كثيراً في العالم كله، فدائماً هناك صقور وحمائم داخل كل تيار، ودائماً هناك من يتخذون قراراتٍ شجاعة، مهما كلفهم الأمر، ومهما تعرّضوا للاغتيال المعنوي، أو التخوين من المعسكر نفسه. والملاحظ أيضاً، في تجارب التحول الديمقراطي، أنه على الرغم من تعدد النماذج للتغيير، أو التحول "السلمي" وغير العنيف، فإن أكثر التجارب نجاحاً كانت التي فيها تفاوض بين طرفي صراع، أو تحول تدريجي وفترة انتقالية ناضجة، فالتجارب الناجحة، أو التي تعرف أقل قدر من الخسائر، هي التي كان فيها مائدة مستديرة بين الحكام والثوار، وكان فيها أفراد عاقلون ومعتدلون داخل النظام والمعارضة، للوصول إلى حل وسط للأزمة.
حدث ذلك في إسبانيا في أواخر السبعينيات، وفي البرتغال، وفي بولندا ودول أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات، وحدث في أميركا الجنوبية، وكان من الطبيعي انتقاد دعاة السلام والحوار والتفاوض وتخوينهم. وتقريباً، لم يفلت أحد من تهمة "البيع"، فعند الاتفاق، أو التسوية السلمية، تبدأ ثورة الراديكاليين أو المتعصبين ضد الشركاء أو الرفاق السابقين، فالوصول إلى تسوية سلمية، أو وقف للعنف والفوضى، يتطلب تنازلات من الطرفين، وهو ما لا يقبله الصقور أو المتطرفون من الطرفين الذين يكثّفون الهجوم على المعتدلين ودعاة الوصول إلى حل وسط، وهو ما يتطلب شجاعة وثباتاً من المعتدلين وإصراراً على السلمية والتدريج، وهو ما حدث، مثلاً، مع ليخ فاليسا في بولندا، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وغيرهما.
من الصعب أن يقبل الثوار بقاء بعض "فلول" النظام القديم في السلطة، ولو فترة انتقالية، ومن الصعب على من عاش زمناً طويلاً في مقعد السلطة أن يتقبل مشاركة المعارضة السابقة أو المنافسين أو الأعداء، فمن الصعب الشراكة مع أناسٍ تكرههم، ويزداد الأمر صعوبةً، لو كان هناك ضحايا أو أحداث عنف أو حملات تشويه وتخوين وشيطنة للآخر. ومن الطبيعي، في الفترات الانتقالية، أن تكون هناك انشقاقات داخل كل معسكر أو انتقال من معسكر إلى آخر، أو أن تجد من ينتقل من اليمين إلى اليسار أو العكس، بحسب موقفه من نتائج الاتفاق أو المرحلة الانتقالية، أو من يتحول من التأييد إلى المعارضة، أو من المعارضة إلى التأييد، حسب موقفه من الاتفاق، أو حسب أفكاره وآرائه، أو حسب المصالح السابقة أو اللاحقة.
ويلاحظ أن هناك بعضاً أكثر تقبلا للتسويات، أو أكثر ميلاً إليها، أو الوصول إلى حلول وسط
من ثقافاتٍ أخرى، فعندما يعتنق المجتمع ثقافة سياسية، تميل نحو قيم التسامح والحوار والتعدد وقبول الآخر، يكون من الأسهل الوصول إلى حلول وسطى، أو اتفاقات عدالة انتقالية عند الأزمات أو الثورات، عكس المجتمعات المغلقة، أو التي لديها تاريخ في الصراعات الدموية أو الطائفية. وربما هذا ما يفسر غياب الحلول الوسطية أو السلمية في المنطقة العربية، على الرغم من الأغاني والشعارات والخطب عن التسامح والسلمية وقبول الآخر وثقافة الحوار. وللنخب والحكام دور كبير في ذلك، فإذا كان الحاكم والنخب السياسية والثقافية ورموز المجتمع وممثلو الفئات والطوائف أكثر ميلاً نحو العنصرية والتطرف، فبالتأكيد لن يكون هناك أي صدى لقيم الوسطية والتسامح والحوار في المجتمع، والعكس صحيح.
أما عن العواقب، فواضحة لأي متابع، فالتجارب التي ساد فيها العناد وغياب صوت العقل في الحكومة أو المعارضة هي التي أدت إلى كوارث، أو إلى تأخر الإصلاح في أحسن الأحوال، وأحياناً يكون النجاح في المحاولة الثانية، أو بعد تصعيد عدد أكبر من المعتدلين داخل السلطة، أو بعد سنوات طويلة من الأزمة والتعطيل والعنف والعنف المضاد. ولذلك، لن يحدث تغيير أو استقرار، إلا بعد أن يكون الأمر الغريب واقعاً، وألا يتم تجريم أو استنكار عباراتٍ مثل الحوار أو المصالحة أو العدالة الانتقالية، كما يحدث عندنا، فالنضج هو التعلم من تجارب الآخرين والتوقف عن العناد.
عندنا، على الذي يحدثنا، في كل مناسبة، عن تجديد الخطاب الديني ونشر قيم التسامح والتعايش وقبول الآخر أن يطبق ما ينادي به على نفسه، ففاقد الشيء لا يعطيه، وسيظل أي كلام عندنا عن الحوار والتسامح وقبول الآخر مجرد خطب للاستهلاك الإعلامي، أو لمغازلة الخارج، أما الواقع فهو استمرار الاعتقالات والمحاكمات بالتفصيل، مع حبس كل من يختلف أو ينتقد وتشويهه، فهل ينتصر صوت الاعتدال والعقل، قبل خسارة المزيد؟
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017