موجز عن سميرة توفيق

موجز عن سميرة توفيق

12 فبراير 2016
+ الخط -
قد يُحسب وجود لبنانيين بدوٍ، في مضارب في البقاع (كم عددهم؟)، دلالة تنوع في لبنان فحسب، فلم يمثلوا عنواناً أو حضوراً خاصاً هناك، بل قد يجوز القول إن البداوة ولبنان لا يجتمعان. ومع هذا، فإن شابّةً من أسرةٍ مسيحية، من سكان بيروت ومواليدها، اسمها سميرة غسطين كريمونة، بدأت بعد منتصف الخمسينيات، مساراً دؤوباً في تمكين الأغنية البدوية (في المشرق للدقة) في متن الغناء العربي العريض، ثم راكمت فيه منجزاً وفيراً، وبهيجاً ورائقاً، صنع لهذه المغنية سمْتها الأشهر، وحضورَها الذي عُرفت به، وتميّزت فيه. وسرعان ما صار اسم تلك الشابة سميرة توفيق، وهي التي خطت أولى عتبات شهرتها من الإذاعة الأردنية، بعد بداياتٍ وتجارب أولى، في الإذاعتين اللبنانية والسورية، وذلك عندما انطلقت صوتاً له هذا اللون البدوي (والريفي أيضاً)، من عمّان في العام 1959، واهتم بها إعلامي أردني عتيد، هو صلاح أبو زيد (أطال الله عمره)، والذي يعدّ مؤسس الإذاعة، ويُنسب إليه دور كبير في إطلاق مواهب وكفاءات فنية وإعلامية أردنية وعربية، وهو أول وزير للإعلام ثم للثقافة في الأردن. وقد قالت النجمة التي خُلع عليها تالياً لقب "سمراء البادية"، في حديث تلفزيوني مرّة، إنه لولا صلاح أبو زيد لما كانت سميرة توفيق.
منذ أولى أغنياتها من كلمات وألحان الأردني، توفيق النمري، "أسمر خفيف الروح"، في تلك الأعوام، لم تنخدش مكانة سميرة توفيق الريادية والأجمل في أداء الأغنية البدوية، وبعدة تنويعات وألحان. وكثيراً ما كانت تسميها الأغنية الأردنية. وكان عسيراً على أفهامنا، نحن أهل الأردن، أن هذه المغنية صاحبة الحضور الشاسع في الإيقاع الأردني العام، في السبعينيات خصوصاً، لبنانيةٌ وليست منّا، وليست من بادية الأردن، ولا من أريافه. ومن غريب ما هو غير شهيرٍ عنها أنها حازت الجنسية اللبنانية في 1962، وأنها من أم لبنانية، ومن أب مالطي الأصل. وفي الوسع أن يُقال، وباطمئنان كثير، إن ملايين النظارة العرب، وأهل الشام في مقدمتهم، هم كما بطل رواية أستاذنا محمود شقير "مديح لنساء العائلة" (بيروت، 2015)، ذات الأجواء البدوية، شديدو الإعجاب بسميرة توفيق، وبأغنياتها. ما أن تظهر على شاشة التلفزيون، فإنه يتأمل الشامة التي تستقر قريباً من أنفها، وهي تهز جسدها برصانةٍ واعتدال، في فستانها الناعم والمنسدل بارتياحٍ واتّساع، وتغني "يا بو قضاضة بيضا...". إنهم يستحسنون أيضاً، وبإعجابٍ واحترامٍ كبيريْن، كما هذه الشخصية الروائية، قامة سميرة توفيق الباذخة، وجمالها الهادئ الظاهر باحتشام أنيق، "بالعينين الكحيلتين والرموش الطويلة والشعر الأسود".
مناسبة استدعاء هذه النتف من أرشيف المغنية الشهيرة الغزير، وهي المبتعدة منذ أزيد من عقد عن الإعلام والغناء والتلفزات، أن "مهرجان ربيع سوق واقف" في الدوحة استضافها أخيراً في حفلتين، وبادر إلى تكريمها. فاستمع جمهور المهرجان إلى حزمةٍ من أغنياتها، وكلها قصيرة، وطربيّة غالباً، وقديمةٌ تعيدنا إلى حرارةٍ آفلة، نشتهيها الآن، وإلى بهجةٍ عالية القيمة، لم نعد نصادفها، نحن من أدرك زمن نجومية سميرة توفيق وحضورها الأليف ذاك، لمّا كانت ضيفةً محببةً في مساءات منازلنا، على شاشات تلفزات تلك الأعوام، وأيضاً في دور السينما الشعبية، لمشاهدة أفلامها المسليّة (13 فيلما).
"أسمر كحيل العين" "يا هلا بالضيف" "رف الحمام مغرب"، وغيرها من أغنياتٍ، سمعناها في الدوحة، بصوت صاحبتها، سميرة توفيق. بدا على نقائه المقيم في مداركنا، غير أن الزمان غير الزمان، مرّت تصاريفه، وعبرت سنواته، على ذلك الحضور الذي كان، لنجمةٍ محبوبةٍ في سماءٍ عربيةٍ كانت وديعةً بعض الشيء ثم غادرتنا، وكانت بلادنا أقلّ خراباً. كانت تمر إلى خواطري، وأنا أسمع سميرة توفيق تغني، جالسةً على كرسي على المسرح، "بيع الجمل يا علي" (من ألحان فريد الأطرش) وغيرها، صور بعيدة، لامرأة فارعة القامة، كانت مهرجاناً من الفرح، ساحرة الصوت، تقيم في مكانٍ حميم هناك... في الذاكرة والخيال.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.