متى يكون الواجب "عدم التغطية"؟

متى يكون الواجب "عدم التغطية"؟

10 ديسمبر 2016
+ الخط -
نشرت جامعة ويسترن نيومكسيكو الأميركية، في أغسطس/آب الماضي، دراسة تتساءل بشأن العلاقة بين التغطية الإعلامية وارتفاع نسبة الجرائم التي تغطيها. أحد كاتبي الدراسة، جينيفر جونستون، كتبت: "إطلاق النار العشوائي آخذٌ في الارتفاع، وكذلك ترتفع التغطية الإعلامية المتعلقة بهذه الحوادث. عند هذه النقطة، يمكن أن نحاول تحديد ما الذي جاء أولاً، هل هي علاقة أحادية الاتجاه، بحيث يؤدي إطلاق النار إلى مزيدٍ من التغطية؟ أم أن من الممكن أن زيادة التغطية هي ما سيؤدي إلى رفع معدل الهجمات؟
تخلص الدراسة إلى الخيار الثاني بالفعل: التغطية هي السبب، فهذا النوع من المجرمين تحديداً يتسم بثلاث صفات، العزلة الاجتماعية، والنرجسية إلى حد الغرور، والاكتئاب الدائم. لذلك، يتخيلون أنفسهم بينما تملأ أسماؤهم وصورهم الصحف والقنوات، حتى لو كان هذا المكسب الأخير يأتي بعد الموت.
وهكذا، كان هذا سبباً في ارتفاع حالات إطلاق النار من ثلاث حوادث في السنة قبل عام 2000، إلى مرة كل 12.5 يوم، وإطلاق النار في مدرسة مرة كل 31.6 يومًا. ويعتقد كاتبا الدراسة أنه يمكن لهذا المعدل أن ينخفض إلى الثلث، إذا أعلن كل العاملين في المجال الإعلامي وفي مواقع التواصل اتفاقاً يمنع نشر هذه النوعية من الأخبار.
أشارت الدراسة أيضاً إلى ملاحظةٍ ذكيةٍ حول انخفاض حالات انتحار المشاهير، وقد تزامن ذلك مع خفض وسائل الإعلام تغطيتها مثل هذه الأخبار منذ منتصف التسعينيات.
يمكن تطبيق النموذج نفسه على شخصيات وأفكار عديدة، في مقدمتها استجابة "الذئاب المنفردة" لدعوات تنظيم داعش بتنفيذ العمليات الإرهابية. خطورة هذه الظاهرة أن من يقوم بالتنفيذ ليس عضواً تنظيمياً، بل هو أي مواطن شاهد مقاطع الفيديو، وهو يطمح إلى الربح الأخروي بالجنة، وكذلك الربح الدنيوي، يتخيّل صوره على أغلفه المجلات بطلاً، ككل الأبطال الذين سبقوه، كما يتخيّل صور الرعب الذي سيصيب هذا المجتمع الكافر بسببه.
يبدو هذا منطقياً من احدى الزوايا، لكن هناك زوايا أخرى كثيرة، تفتح جدلاً لا ينتهي. ماذا عن حق المواطن في المعرفة؟ وهذه المعرفة ليست بعيدة عن أغراضٍ عملية جداً، على سبيل المثال، من حقك أن تعرف أن هذا المركز التجاري أطلقت فيه النار، كي لا تذهب إليه.
وماذا عن حرية تداول المعلومات؟ إذا كنا نطالب بفتح وثائق الدول الإدارية والتاريخية كما يحدث في الديمقراطيات، فمن باب أولى، يجب ألا نغفل حق المواطن في معرفة ما يجري حوله.
لكن جدلاً جانبياً سينشأ هنا: ومن قال إن المواطنين يحصلون على حقهم في المعرفة المُجرّدة؟ حسب الدراسة الأميركية، تركّز الصحف على أخبار إطلاق النار العشوائي، لاجتذاب مزيد من الإعلانات. وهذا بالتأكيد بعيد عن جعل المعيار الوحيد هو صدق الخبر وجودته. هذا بالاضافة إلى الانحيازات السياسية الطبيعية الموجودة في كل الوسائل الإخبارية، بما يتحكم في لغة التغطية ومساحتها لكل خبر.
يعرف كل من عمل في الصحافة الإلكترونية أن تحقيقاً قيماً قد لا يحصل على عُشر القراءات التي يحصل عليها خبرٌ عن واقعة اغتصاب. هل من واجب المؤسّسة أن تُبرز التحقيق في مكان أفضل، وتُخفي خبر الاغتصاب، أم تترك آليات العرض والطلب المُجردة من دون توجيه إلى الأصلح؟
ثم من سيختار وكيف؟ من الذي سيتنازل له المجتمع عن سلطة الاختيار؟ هل هذا ممكن أصلاً؟ ومن الذي سيحدّد ما هو الأكثر فائدةً وأهمية؟ وكيف تتحدّد بالضبط النسبة الكافية من التعرّض لخبر معين؟
تحتاج الأسئلة إلى صيغة محلية أخرى، حين تُوجه في بلادنا، لكي لا تستغلها الأنظمة للتهليل لانتكاسةٍ جديدةٍ بمجال حرية الإعلام. ليس المطلوب تأميماً إعلامياً أو هيمنةً حكومية، بل هذا أسوأ وأخطر من أي سلبيات أخرى.
ستبقى هذه الأسئلة مفتوحةً تختلف فيها الآراء، وتأتي حلولها تدريجياً بسلوك جمعي عام، يتم بالتوافق الهادئ بين أفراد الجماعة الصحفية ومؤسساتها.

دلالات