فلسطين والحريق العربي

فلسطين والحريق العربي

08 ديسمبر 2016

مؤتمر حركة فتح لم يجب على أسئلة فلسطينية (30/11/2016/الأناضول)

+ الخط -
ثمّة سؤال حارق للعقل والعاطفة وللتفكير معاً، لم يُجب عنه المؤتمر السابع لحركة فتح هو: هل ما برحت فلسطين قضية العرب الأولى؟ والإجابة كانت بدهية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، لكنها صارت اليوم متسربلةً بالشكوك والتساؤلات، بعدما قطَّعوا أوصالنا بالطائفية والمذهبية في معمعان سعيهم إلى القضاء على جوهر الفكر القومي العربي التقدمي. وفلسطين هي خلاصة الحركة القومية العربية التي بدأتْ بواكيرها في القرن التاسع عشر، واكتملتْ أفكارُها في القرن العشرين. وخلاصة الفكر القومي العربي تعني، في ما تعني، مواجهة الاستعمار بالوحدة، ومواجهة الصهيونية بتحرير فلسطين، وردم الفجوة العلمية بيننا وبين الأمم الأخرى، بالنهضة والتقدم والعلم، والتغلب على الانقسامات الاجتماعية بالاندماج الوطني، من خلال المساواة والمواطنة والديمقراطية والحريات. وفي هذا الميدان، كانت إسرائيل هي التحدّي القومي الكبير الذي ظهر على أرضنا في سنة 1948، وأعاق الوحدة والتقدم والاندماج الاجتماعي، ولا سيما في الدول العربية المحيطة بفلسطين التي وجدتْ تحدياً مصيرياً، ينتصب أمامها، وهي خارجة للتو من ربقة الاستعمار.

الفرادة والاستحالة
الصراع في فلسطين فريد حقاً، وهو لا يشبه غيره من قضايا الأمم، خصوصاً حركات التحرّر الوطني المشهورة، مثل الجزائر أو فيتنام أو جنوب افريقيا. وشعب فلسطين هو آخر شعب في العالم ما زال يرزح تحت الاحتلال. فما السبب؟ السبب هو أن الصهيونية نفسها ليست كأي احتلال استعماري آخر، فهي حركة استيطانية وإحلالية، أي أنها أحلّت مجموعاتٍ بشريةً محل شعب آخر، وعملت على تحويل تلك المجموعات إلى شعب، في الوقت الذي تحوّل فيه الشعب الفلسطيني إلى جموع لاجئة.
الاستعمار الفرنسي مثلاً لم يُرحِّل الجزائريين، بل أراد فرنستَهم وإلحاقَ الجزائر بفرنسا. والفرنسيون، ثم الأميركيون من بعدهم، لم يرحِّلوا الفيتناميين عن أرضهم، بل استعمروهم بالاحتلال المباشر. واستعبد الأوروبيون البيض شعوب أفريقيا الجنوبية، وأقاموا نظام الفصل العنصري، لكن المواطنين ظلوا في ديارهم. وحين هبت تلك الشعوب في سبيل حريتها قدّمت طرازاً مدهشاً من النضال والثبات على المبادئ التحرّرية. وفي النهاية، أسقط السود العنصرية، وطرد الجزائريون والفيتناميون الاستعمار من ديارهم. أما في فلسطين، فالأمور جرت على
نحو مغاير؛ فقد كان أمام المستعمرين الصهيونيين خيار من اثنين: إما الإبادة على طريقة الهنود الحمر في أميركا أو الترحيل. ولمّا كانت الإبادة مستحيلةً في أوضاع تلك الفترة، فقد عمدت الحركة الصهيونية إلى الترحيل. لكن الفلسطينيين لم يُرحّلوا إلى القطب الشمالي، بل إلى أرضٍ عربية، ليحتضنهم أشقاؤهم العرب، ويقيموا قريباً من فلسطين. ولمّا أنجدتهم أحوالهم، خاضوا النضال بأشكاله المختلفة، ومارسوا ثلاث استراتيجيات خلال خمسين سنة: مارسوا الكفاح المسلح من الحدود العربية، فتمكّنوا من تحويل جموع اللاجئين إلى شعبٍ يتصدّى لحريته. ثم خاضوا المفاوضات السياسية، استناداً إلى أوراقهم التي جمعوها في سياق كفاحهم المسلح المديد، فتوصلوا إلى سلطةٍ محدودةٍ تحت الاحتلال. واليوم، يجري العمل على تدويل قضية فلسطين، مع أن قضية فلسطين عربية أولاً وآخراً، وليست قضية دولية، وأعتقد أن التدويل لن ينجم عنه أي نتيجة.
لم يتمكّن الكفاح المسلح من تحرير فلسطين، ولم تصل المفاوضات إلى الخواتيم المرجوّة، وهي في الحد الأدنى، دولة مستقلة على الأراضي التي احتُلت في عام 1967، وحل مشكلة اللاجئين، على أن تكون القدس عاصمة الدولة المقترحة. وتبدو حتى هذه الأهداف مستحيلة اليوم. لماذا؟ لأن العرب ما برحوا منذ هزيمة حزيران/ يونيو 1967 يتدحرجون في مسار انحداري. وواهمٌ من يعتقد أن الفلسطينيين وحدهم قادرون على تحرير بلادهم. إنهم رأس الحربة، أما القوة الفاعلة في التحرير فهي العرب، في ما لو امتلكوا العدّة والإرادة والرؤية والاستراتيجية. لكن العرب اليوم، وأقصد عرب المشرق (لبنانيون وسوريون وعراقيون وأردنيون ومصريون) واقعون بين لجام ومهماز وخنجر: لجام الفكر الرجعي المعادي لأي نهضةٍ وتقدم، ومهماز الاستبداد العربي، وخناجر الجماعات الإرهابية الجديدة التي لا تختلف في سلوكها الوحشي عن الضباع المقروحة الداشرة. وفي هذا الاضطراب العميم، تكاد الحركة الوطنية الفلسطينية تندثر تماماً كقوة تحرير. أما التكفيريون، وحتى بعض الجماعات الإسلامية التقليدية، فلا يقيمون للأرض أي قيمة خاصة، فقضية فلسطين لديهم مجرد واحدة من قضايا المسلمين ليس أكثر. وها نحن نشهد جميعنا تدمير المجتمعات العربية، وخروج جماعات رثّة من كل حدبٍ وصوبٍ لتتسيد الحياة اليومية للعرب. وفي معمعان هذه الكارثة، صارت قضية فلسطين في أدنى حضور لها. وكيف لا تكون على مثل هذا الهوان، بعدما صارت إسرائيل حليفةً حقيقيةً لبعض البلدان العربية.
يقول مئير داغان، الرئيس السابق للموساد: "إسرائيل مثل العشيقة السرية. الجميع يستمتع بالعلاقة معها، ولا أحد يعترف بذلك". لكن، لم يطلِ الزمنُ كثيراً، حتى افتُضح الأمر وانتقل من السر إلى العلن، وكانت ابتسامة اللواء السعودي، أنور عشقي، مع المسؤول في وزارة الخارجية الإسرائيلية، دوري غولد، تشي بغرام قديم من دون خجل.

الاستعصاء التاريخي
من مفارقات عالمنا اليوم أن العالم كلَّه يُقرُّ بعدالة قضية فلسطين، لكن هذه القضية لم تُدرج، حتى الآن، على جدول أعمال دول العالم المقرِّرة التي تتشدّق، صبحَ مساءَ، بالكلام على الحرية والعدالة. ولماذا نذهب بعيداً؟ فالعرب، وأقصد الدول العربية، كانوا في حالة حربٍ مع إسرائيل رسمياً، ثم دبّجوا مبادرة سلام مشتركة، رفضها الإسرائيليون. إذاً، الموقف الطبيعي في هذه الحال هو العودة إلى حالة الحرب. لكن العرب طووا، على ما يبدو، زمن الحروب، وها هم يتحرّقون على السلام مع إسرائيل بأسرع ما يمكن، حتى قبل أن يقدِّم الإسرائيليون أي شيء للفلسطينيين. أَليست غريبة هذه المهانة؟
قضية فلسطين صارت اليوم عالقةً في استعصاء متعدّد الحلقات؛ فقد انتهى عهد الحروب
الكبرى بين العرب وإسرائيل في سنة 1973، ولم يسفر ذلك عن أي تسويةٍ سياسيةٍ بين الفلسطينيين وإسرائيل. وتكاد حقبة التسويات تشارف على الانصرام، بعدما افتتحتها مصر في سنة 1977، من غير أن تشهد فلسطين خاتمةً لآلامها المتمادية. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية جهدت لتحتل مكانةً بين اللاعبين الكبار في الشرق الأوسط، فصاغت برنامج النقاط العشر في سنة 1974 الذي يعتبر انكفاءً عن شعاراتها الأولى، ومارست ديناميةً دوليةً لتأكيد هويتها السياسية، باعتبارها حركة تحرّر وطني، تسعى إلى حرية شعبها، لا منظمة إرهابية، لكنها احتاجت إلى سبعة عشر عاماً، لكي تتمكّن من الانخراط في العملية "السلمية" التي أطلقها مؤتمر مدريد الدولي للسلام في عام 1991. وها نحن وصلنا، بعد ثمانية وستين عاماً من النكبة، إلى عجزين: عجز الإسرائيليين عن إطفاء شعلة التحرّر الوطني لدى الشعب الفلسطيني، وعجز الفلسطينيين عن تحرير وطنهم. وهذه الحال تولِّد، ولو نظرياً، إمكانيةً للتسوية السياسية بين الطرفين. وكان اتفاق أوسلو في سنة 1993 المحاولة العملية الوحيدة في هذا السياق. لكن، حتى هذه الاتفاق، فشل بعد ثلاث وعشرين سنةً من التفاوض المرّ والمرير. وها هي إسرائيل نفسها عالقةٌ في مشكلة لا حلّ قريباً لها؛ فهي غير قادرةٍ على ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة بسكانها، وغير قادرةٍ على الانسحاب منها. وما تعرضه يرفضه الفلسطينيون، وما يريده الفلسطينيون لا يمكن لأن تقبل به إسرائيل ألبتة؛ فضم الضفة بسكانها سيجعل عدد الفلسطينيين يقترب، بالتدريج، من عدد اليهود، وهو ما يجعل دولة إسرائيل دولة ثنائية القومية، وهذا ما لا يمكن أن تحتمله إسرائيل لأنه يهدّد مستقبلها كدولة يهودية. وضم الأراضي الفلسطينية من دون السكان يحتاج إلى ترانسفير، وهو مستبعد في سياق التطورات الجارية.

سيزيف العصر الحديث
يشهد العالم المعاصر انفجاراتٍ غير مسبوقة في جميع الاتجاهات، كصراعات الهوية في أفريقيا وآسيا، والنزاعات الانفصالية في السودان وليبيا والجزائر ونيجيريا وإندونيسيا والفيليبين، وكذلك الميل إلى التفكّك في أوروبا، مثل بلجيكا وإسبانيا وويلز وأسكتلندا وإيرلندا (علاوة على ما حصل في يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي)، ثم الجماعات التكفيرية وإرهابها، والأقليات ولا سيما المسيحيون، فضلاً عن اللاجئين إلى أوروبا، وكذلك قضايا الاندماج الاجتماعي والاستبداد ومعضلات الحكم في الدول غير الديمقراطية، ومشكلات التحول إلى الديمقراطية، والنفط والغاز وخطوط الإمداد، والأسلحة النووية، خصوصاً في كوريا الشمالية، والسباق على السيطرة على المحيط الهادئ بين الصين وأميركا، والرعب من أزمةٍ مالية عالمية جديدة... إلخ. وتلُفُّ العالم العربي سحابةٌ من السواد والنار؛ فمصر تضطرب أمنياً وسياسياً، خصوصاً في سيناء، وسورية تلتهب بنيران تحوِّل تاريخها العظيم رماداً. وفي العراق، موتٌ جهنمي، والصراع على النفط والغاز وممراته يبيد شعوب هذه البلاد بأيدي شعوبها. وفي معمعان هذا الهول، تتمتع إسرائيل بأمان، ولو نسبي، قياساً على محيطها وجوارها. وعلاوة على ذلك كله، ها هو العالم يتقلقل بجلبةٍ شديدةٍ، كأنه يتقلب في مجبل إسمنت، والبلبلة الدموية تغمر مراكز العالم وأطرافه، وتفتح جروحاً متقادمة، مثل أوكرانيا والقرم وأرمينيا وناغورنو قرة باغ، ما يشير إلى عودة "الحرب الباردة" مجدّداً.
في هذه المحنة الكونية، تبدو قضية فلسطين كأنها ما عادت قضية العرب الأولى، بل واحدةٌ من القضايا العالمية المعلقة الكثيرة. وما دامت قضية فلسطين ما عادت قضية العرب الأولى، فهذا يعني أن إسرائيل ما عادت عدوة العرب الأولى، وأن ميلاً عربياً يتطوّر بالتدريج، للتخلص من عبء القضية الفلسطينية، وللتقرّب من الكيان الصهيوني.
إن سقوط الرادع القومي والخُلقي في تجاوز الحقوق الفلسطينية والسير نحو معانقة الصهيونيين بذرائع شتى، يبرهن، مرة أخرى، على تدهور مكانة القضية الفلسطينية في العالم العربي، حتى
على المستوى الشعبي. لقد تبدّلت الأحوال جذرياً، والبيئة العربية التي احتضنت صعود حركة التحرّر الوطني الفلسطيني اندثرت، وتناثرت هباءً. لنتذكّر أن منظمة التحرير ما كان في إمكانها أن تظهر في عام 1964، لولا جمال عبد الناصر الذي حوّل القاهرة عاصمة لحركات التحرّر في أفريقيا وآسيا. لنتذكر أيضاً أن حركة فتح نفسها اشتدّ عودها في البدايات الأولى، جراء احتضان سورية لها في التسليح والتدريب وبناء القواعد العسكرية. وفضلاً عن ذلك كله، كانت المخيمات الفلسطينية في الأردن وسورية ولبنان الأساس الذي بُنيت عليه المقاومة الفلسطينية في طور صعودها. غير أن ذلك كله اندثر اليوم أو تغير؛ فلا قاهرة جمال عبد الناصر موجودة، ولا بيئة عربية ودودة، وما عادت المخيمات في دول الطوق العربية على ما كانت عليه من التحفّز والاندفاع، بل تحوّلت، جراء التدمير والتهميش، مأوى لشبان هائمين وباحثين عن بصيص أملٍ يلوح في قوارب الهجرة. وفي خضم المتغيرات التي تعصف بالعالم العربي كله، صار الفلسطينيون سيزيف العصر الحديث: الهدف مستحيل، لكن الأمل عظيم. أو مثل عملية جزّ العشب؛ كلما جززته نبت مجدّداً. وتتيح هذه الحال المضنية القول إن الشعب الفلسطيني ما دام متشبثاً بأرضه، فإن من المحال أن تندثر قضية فلسطين. فمعجزة الشعب الفلسطيني هي البقاء في المكان، وهذا ما نشهده في الضفة.

الانتظار الايجابي
أُرغمت قضية فلسطين على الوقوف في محطة الانتظار السياسي؛ فالجميع بات الآن، دولاً وشعوباً ونخباً سياسية، ينتظر ما ستسفر عنه الحرائق العربية المندلعة في كل مكان. ومن البدهي الاستنتاج أن من المحال تحقيق إنجاز تاريخي للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة العصيبة. ولعل الانتظار الايجابي هو الخيار الواقعي والممكن. والانتظار الإيجابي، على غرار الحياد الإيجابي الذي صنعه جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو وتيتو في مؤتمر باندونغ عام 1955، يعني انتظار تبدلاتٍ جوهريةٍ في السياسات العامة يكون الطرف الفلسطيني، في هذه الأثناء، جاهزاً لاغتنام الفرصة لنيل بعض حقوقه التاريخية. وليس الانتظار الإيجابي انتظاراً سلبياً، أي بلا جهد يُصنع أو خطط تُرسم، بل يتضمن العمل على تمكين الفلسطينيين من البقاء في أرضهم، والنضال بالوسائل المتاحة للإبقاء على جذوة التحرّر الوطني متقدة، واستعمال جميع أوراق القوة (وليس العنف بالضرورة) في سبيل نزع الشرعية عن إسرائيل، كالمقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، ومحكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية، ومنابر الأمم المتحدة كاليونيسكو وغيرها، والمواجهة الشعبية اليومية ضد الاستيطان والاعتداء على الأراضي وغير ذلك. فالانتظار السلبي كمن يقف في محطة القطارات ملوحاً بالمناديل، بينما الانتظار الإيجابي كمن يجهّز الحقائب، ليصعد إلى القطار في المحطة الملائمة.
* * *
كانت فلسطين تحتل المكانة الأهم في شعارات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، وكانت تلك الشعارات لا تنفكّ مرددةً أن "فلسطين عربية" و"فلسطين قضية العرب الأولى" وهي "جوهر القضية العربية"... إلخ. وهذا ما كان بدهياً في تلك المرحلة، حين كانت "القضية العربية" في جوهرها الاسم الآخر لمشروع التحرّر القومي من الاستعمار، ولمشروع الوحدة القومية والنهضة والتقدم والعدالة الاجتماعية. وقد اكتسبت القضية العربية تعريفها السياسي من اصطدامها بالمشروع الاستعماري الذي تجلى على أرض فلسطين في هيئة "دولة إسرائيل"، غير أن الأحوال "تشقلبت" رأساً على عقب مرات متتالية، منذ نحو ثلث قرن فأكثر. لنتذكّر كيف كان تلاميذ المدارس في سورية لا يدخلون صفوفهم، قبل أن ينشدوا نشيد الثورة الجزائرية، وكيف استشهد السوري جول جمال دفاعاً عن مصر في سنة 1956، وكيف تداعى لبنان كلُّه في وداع خليل عز الدين الجمل الذي استشهد على الطريق إلى فلسطين، وتبعه كثيرون من هذه الأرض الطيبة. ومع ذلك، فإن قضية فلسطين، في نهاية المطاف، تجسّد مصير المشرق العربي كله في مواجهة "المسألة اليهودية" التي هي جوهر الاستعمار في بلادنا.