تونس... الرّهاب من الأجانب والتمييز العنصري

تونس... الرّهاب من الأجانب والتمييز العنصري

01 يناير 2017
+ الخط -
احتفلت تونس، قبل أشهر، بمرور 170 عاماً على صدور قانون إلغاء الرق وتحديداً "الرقيق السودان"، كما ورد في الأمر العلي الصادر سنة 1846 الذي أسس ذلك على مقاصد الشريعة، وهي المدرسة الفقهية التي عرف بها المغرب الإسلامي آنذاك، فديباجة القانون تستند إلى ثلاثة مبررات أساسية: أن الله خلق الناس سواسية من دون تمييز، وأن الرسول قد أوصى بالرفق بـ "العبيد"، وهو ما لم يتحقق إلا نادراً، وأن حجة تملك العبيد من جل المالكين واهية، ولا ثبوت لها. لذلك، أن يمنع منعاً باتاً استعباد "الرقيق السودان". وكانت تونس، في هذا القانون، أول دولة عربية تلغي الرق، بل سبقت بلداناً غربية عديدة، وتفيد الوثائق الأرشيفية أنها راسلت الولايات المتحدة الأميركية بطلب منها لتقديم المكاسب التي يجنيها المجتمع والاقتصاد من تحرير العبيد.
لا يذكر المؤرخون أن المجتمع التونسي احتج على تلك الإجراءات ما عدا جيوب ممانعة ضعيفة، تمثلت في امتعاض أهالي جربة وبعض واحات الجنوب في تونس التي رأت في ذلك خروجاً عن الشرع. وهي في الحقيقة تدافع، بهذا الموقف، عن مصالح، لأن الاقتصاد المحلي في تلك المناطق كان يقوم على الرقيق السودان (زراعة الواحات...)
في غمرة هذا الافتخار والتباهي وليلة احتفال تونس باليوم الوطني لمكافحة أشكال التمييز العنصري كافة، فاجأنا اعتداء مواطن تونسي على بعض الطلبة الأفارقة. وعلى الرغم من أن الحادثة تعد فردية ومعزولة، فإن علينا أن نذهب إلى ما وراء ذلك، من دون تهويل أو تهوين.
لا أحد ينكر أن قضية الأقليات العرقية والثقافية طرحت بعد الثورة، وقد أثارت، ولا تزال، تحفظاتٍ كثيرة، إذ يخشى بعضهم أن تكون هذه الدعوات منخرطة في أجندات دولية، تثير الفرقة والتقسيم. ولكن، يبدو أن هذه المخاوف، وإن كانت مشروعة، فإنها لا تصادر، في الأصل، حق الدفاع عن الهويات والخصوصية التي تثري الجماعة الوطنية، خصوصا إذا حرص على حسن إدارة التعددية والتنوع، باعتبارهما رأسمالاً وطنياً ثميناً.
منذ سنوات قليلة، وحتى قبل الثورة، تفطنت عدة دراسات إلى بعض التعبيرات والممارسات 
العنصرية التي يذهب ضحيتها سنوياً مئات الأشخاص من ذوي البشرة السوداء، سواء كانوا أجانب، وهم، في غالب الأحيان، طلبة أفارقة، موظفون (البنك الأفريقي للتنمية الذي احتضنته تونس سنين طويلة)، مهاجرون غير شرعيين، أو مواطنون تونسيون. وهي عادةً ممارسات فيها تحقير لكرامتهم وشتائم عنصرية تنال من ذواتهم.
لسنا في تونس بلد الاضطهاد العنصري، وهذا مما لا شك فيه، فلا شيء في القانون أو الممارسات النظامية الممأسسة (الإدارة، الجامعة، الانتخابات ) يجيز أي شكل من التمييز العنصري. ولكن، علينا أن نتفطن، كما يقول أحد المفكرين الفرنسيين، أن العنصرية تختبئ في الزوايا الخلفية لعقولنا.
يتساءل التونسيون، من خلال وسائل إعلامهم والمواقع الاجتماعية، إن كانوا فعلا عنصريين. لا اعتقد أن الأمر وصل إلى هذا الحد، فلقد عاش التونسيون مع بعضهم، من دون أن يذكر التاريخ أن إجراءات تمييزية اتخذت في حق سود البشرة منهم. وخلا التشريع، كما ذكرنا، من أي تلميحٍ لإجراءات تمييزية. ولكن، يبدو أن هناك جيوباً من الثقافة المنتشرة التي ما زالت تعيد إنتاج صور نمطية لا يتجرأ الناس على النطق بها، أو حتى التلميح بها إلا في دوائر مغلقة.
ومع ذلك، لا أحد ينكر أيضاً أن هناك ممارسات اجتماعية تظل مؤشراً على تلك الثقافة الصامتة والمتخفية، من قبيل استنكار الزواج المختلط بين "البيض" و"السود"، ورفض الأوساط العائلية مثل هذه الحالات، وأمثلة شعبية كثيرة تنال من كرامتهم، بل تعرض أحياناً أعمال درامية تلفزية ومسرحيات صورا نمطية للأفارقة، تختزل عادةً في لاعب كرة قدم"أبله" أو ساحر متخيل أو مهاجر سري، وهي صور نمطية مخلة بالكرامة، وتدعو إلى كراهية الأجانب عموماً. كما أن التضييق على الطلبة ورفض تأجير المنازل لهم، والإجراءات القانونية والإدارية المتشددة تجاههم، مؤشرات سلبية تشي بهذه الثقافة المتنامية.
لذلك، كانت ردود الأفعال الرسمية والشعبية مدينة لذلك الحادث، ما جعل رئيس الحكومة يصدر 
بياناً شديد اللهجة، بمناسبة احتفاء تونس باليوم الوطني لمكافحة التمييز العنصري، ويعتذر فيه عن تلك الاعتداءات. ويذكر أن تونس كانت أول بلد عربي يصدر قانون إلغاء الرق، وأن على مجلس نواب الشعب أن يعجّل بإصدار قانون لمنع كل أنواع التمييز العنصري.
كما توالت ردود أفعال منظمات المجتمع المدني التي ندّدت بالحادثة، واعتبرتها إساءة لتونس وثورتها التي نادت بقيمة الحرية والكرامة.
التشريع مهم في مناهضة العنصرية وكل مشاعر كراهية الأجانب. ولكن أعتقد أن هناك مقاربات أكثر تأكيدا، لأنها تعالج الظاهرة من جذورها، تقوم على التربية والثقافة التي تشيع قيم التسامح والغيرية والحق في الكرامة بقطع النظر عن اللون أو العرق. كما أن تشجيع الأجانب المقيمين في البلاد التونسية على تشكيل جمعياتٍ، تعبر عن تطلعاتهم ومشاغلهم وتعزّز حقوقهم (طلبة، عمال، مستثمرون..) من شأنه أن يعطي لهؤلاء مرئية أكبر.
وقفة الطلبة الأفارقة يوم الأحد 25 ديسمبر/ كانون الأول 2016 أمام المسرح البلدي في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة، والذي شهد ثورة الشعب التونسي وإسقاط النظام، للتنديد بالحادثة الشنيعة التي تعرّض لها بعض أولئك الطلاب أمر جيد، وخطوة في الاتجاه الصحيح. المجتمع المتفتح والصلب لا يخشى تعبيرات الحرية، على الرغم من أنها تربك يقيناً/ وهما كان ينعشنا و يدغدغنا: تونس بلد 3000 سنة حضارة، وتونس أول بلد عربي يلغي الرق (أحمد باشا باي، يناير/ كانون الثاني 1846)، وتونس أول رابطة لحقوق الإنسان في أفريقيا كلام جميل، ولكنه يحتاج إلى تنسيب، حتى نكون بحجم المسؤولية المتولدة عن ذلك. أما المديح فسهل ومريح... هذا درس عسير للتدرب على معنى التعدّدية والاختلاف والتنوع.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.