أزمة ليبيا والانتقال من السياسة إلى السلاح

أزمة ليبيا والانتقال من السياسة إلى السلاح

01 يناير 2017

خليفة حفتر في مطار الخروبة بعد زيارته روسيا(3/12/2016/فرانس برس)

+ الخط -
بعد انقضاء عام 2016، لم تعُد أزمة المشروعية المتغيّر الحاكم للإشكالات السياسية في ليبيا، فقد صارت كل المؤسسات تواجه عيوباً دستورية، وبالتالي يكمن التحدي في مدى ملاءمة البدائل السياسية للخروج من الأزمة. وهنا، تبدو أهمية تناول التغيرات الداخلية والخارجية، من حيث تأثير التداعيات السياسية والعسكرية على إعادة بناء الشرعية، والخروج من حالة الفراغ والنزاع السياسي.
وبعد مرور عام على اتفاق الصخيرات، يشكل انقسام المؤسسات الدستورية المعوّقات الأساسية لتكامل السلطة، حيث ظلت نتائجها المباشرة في تجنب دخول الاتفاق السياسي حيز النفاذ. وهذا ما يرجع إلى أسبابٍ لا تقتصر فقط على المطالبة بتعديله، لكنها كانت أكثر ارتباطاً بمشروعين متناقضين لإعادة بناء الدولة، لا يقتصر التناقض فقط على الخلافات حول أولوية "فبراير" و"الفاتح"، ولكنه يدور أيضاً حول الحكمين، المدني والعسكري، وقد أدّت هذه التناقضات إلى تسارع هدم محاولات بناء السلطة الانتقالية، وبصورةٍ ساهمت في تشظّي التشكيلات المدنية والعسكرية وانقسامها.
وعلى الرغم من الاختلافات الجزئية بين مشروعي خليفة حفتر والحكومة المؤقتة، والاتفاق السياسي، فإن تفاقم الأزمة الشاملة في الدولة جعل الصراع المسلح الأداة القريبة لكل الأطراف الليبية، خصوصاً أن المشروع العسكري في ليبيا يبدو في طور الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى، لم يقتصر هذا التطور على إطاحة الإدارة المدنية في كثيرٍ من مدن المنطقة الشرقية، ولكنه امتد إلى تسمية حاكم عسكري للمنطقة الغربية، ويمكن النظر إلى التلويح بنقل المعارك إلى طرابلس والجنوب الليبي، محاولة لبدء مرحلة أخرى من الحرب الأهلية.
وفي هذا الاتجاه، لا تبدو الأزمة الأمنية في طرابلس سهلة، وهذا ما يرجع إلى مصدرين رئيسيين؛ تنوّع المجموعات المسلحة بين الأيديولوجيا الدينية والجهوية، حيث تتضح ملامح معقدة للصراع المسلح لأجل السيطرة على العاصمة، وتوجّه خليفة حفتر نحو نقل مشروعه إلى المنطقة الغربية. ويمكن ملاحظة أن هذه العوامل تتضافر في إثارة الصراع، خصوصاً في ظل حالة فراغ السلطة، وتراجع فرص ملئه في المستقبل القريب، حيث صارت حكومة الوفاق الوطني تشكل جزءاً مهماً في الصراع.
ولعل نقطة الانتقال المهمة، تكمن في سعي حفتر إلى التعامل مع الشرطة باعتبارها امتداداً للجيش، وهي سياسة أقرب إلى دمج الجهتين أو إخضاعها (الشرطة) لسلطة الجيش، تحت مظلة "الحكم العسكري الانتقالي"، وتبدو هذه العملية بمثابة إعادة هيكلة للسلطة العسكرية من دون انتظار للترتيبات السياسية.

استقطابات مجلس النواب
ويمكن النظر إلى رفض مجلس النواب (كتلة السيادة الوطنية) تعديل الإعلان الدستوري
وشرعنة اتفاق الصخيرات من وجهة تطلعه إلى توفير الضمانات اللازمة لدمج "عملية الكرامة" في الإطار الدستوري الجديد، والحفاظ على مكاسبة التشريعية والسياسية التي تحققت منذ انتخابات يونيو/حزيران 2014.
ويشكل هذا الموقف الأرضية الملائمة لانقساماتٍ متتالية في السلطة التشريعية. وفي رد فعل على احتكار "السيادة الوطنية" وتحالفاتها قرارات مجلس النواب، نشأت تكتلاتٌ أخرى، تسعى إلى إحداث توازن سياسي، لكنها تساهم في تكوين أرضيةٍ لحالة استقطاب واسعة النطاق.
وقد شهد نوفمبر/تشرين الثاني 2016 توجهاتٍ متسارعةٍ لتشكيل كتل برلمانية وسياسية، وبشكل يعكس حالةً من التنافس والصراع السياسي، ويكشف، في الوقت نفسه، عن الانحياز أو التقارب مع كتلة السيادة الوطنية، أو طرح إطار مختلف لتناول الأزمة السياسية، وفي 6 نوفمبر 2016، صدر إعلان تشكيل كتلة "الوحدة الوطنية" من طبرق، محاولةً للتغلب على الانقسامات المتتالية لمؤسسات الدولة و"انسداد الأفق السياسي"، وقد تضمن بيان الكتلة ملمحين رئيسيين؛ الأول أنه على الرغم من صلاحية "الاتفاق السياسي" أرضية مشتركة، فإنه يتطلب إجراء تعديلاتٍ تراعي قيود الواقع السياسي، والصعوبات التي حالت دون تطبيقه على مدى الفترة الماضية. ولعل الملمح الثاني يوضح أن دور الجيش صار أكثر أهميةً بعد تحقيق الاستقرار في المناطق التي يسيطر عليها، ما يضع الجيش، بتشكيله الحالي، أساساً لتكوين المؤسسة العسكرية.
كما صدر إعلان تشكيل كتلة "الميثاق" (29 نوفمبر 2016) في البيضاء، لتضع في أولوياتها الحفاظ على المسار الديمقراطي، وبناء مؤسسة عسكرية قوية تحارب الإرهاب. ويشير بيانها التأسيسي إلى تقاربها مع كتلة "السيادة الوطنية" في دعم الوضع الراهن في سياسات مجلس النواب وتوسيع دور الجيش.
وعلى خلاف الكتل النيابية، شكل، في 6 نوفمبر، ممثلو مصراتة في المجلس الأعلى ومجلس النواب "التجمع السياسي لنواب مصراتة". وعلى الرغم من مكوناته المحلية، فإنه ركّز على أولوية التقدم تجاه التحول الديمقراطي والوحدة الوطنية وسيادة السلطة المدنية ووقف "الانقلاب العسكري". وبهذا المعنى، يقدم طرحاً مختلفاً عن الكتل الأخرى في مجلس النواب التي ترى أن الانطلاق يكون على أساس التشكيلات الراهنة للجيش، واعتبارها قاطرة التشكيل السياسي للدولة.
لعل الفارق الأساسي بين هذه الكتل يكمن في القدرة على التأثير في سياسات السلطة التشريعية، ويمكن القول إنه بينما تتشكل الكتلة السياسية لنواب مصراتة بعيدةً عن التأثير في مجلس النواب، تبدو الكتل الثلاث الأخرى أكثر نفوذاً وترابطاً، وفي إطارٍ يساعدها على الخروج من النطاق المحلي للنطاق الوطني.

سلسلة داعش
تعكس الأنماط العسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في ليبيا تقارباً مع حركة الكرامة، فمن جهةٍ يمكن اعتبارها الهيكل المناظر لـ"سرايا الدفاع عن بنغازي". ومن جهة أخرى، تعمل "داعش" على نقل المعارك إلى المناطق البعيدة عن سيطرة خليفة حفتر، فقد بدأت العمليات الموسعة لها في مدينة درنة، ثم انتقلت لاحقاً إلى مدينة سرت. وبعد فشل المرحلة الثانية، تبدو توجهاتها نحو مدن المنطقة الغربية.
وإذا ما سرنا في هذا التحليل، يمكن القول إن إعادة إنتاج "داعش" لا تبدو عملية عشوائية، ولكنها تتم بوصفها واحدةً من أوجه الصراعات التي تشكلت بعد تعثر ثورة فبراير، وليس نتاجاً لتداعيات خارجية، فالساحة الليبية تشهد حالةً من الاستدعاء لصراعات "الجهاديين" والسلفيين، وبشكل يؤسس لصراعاتٍ أيديولوجيةٍ، تفتح أنفاقاً أمام الأزمة الليبية.

تحوّل الانقسامات العسكرية
بالنظر إلى طور التشكيلات العسكرية والمسلحة منذ بداية 2014، يمكن ملاحظة تحسّن الشكل النظامي لجيش الحكومة المؤقتة، واستناده إلى أرضية سياسية أكثر استقراراً، في حين تتزايد الانقسامات والتناقضات بين المكونات المسلحة في المنطقة الغربية وطرابلس، وهذا ما يشكّل خلفية الحديث المتزايد عن اندلاع المعارك داخل طرابلس بين مجموعات مسلحة مختلفة التوجهات السياسية.
وعلى الرغم من تفويض المجلس الرئاسي لوزير الدفاع، المهدي البرعثي، وانعقاد الملتقى
السادس لضباط المنطقة الغربية، ظل حفتر يشكل محور الرمزية العسكرية في ليبيا، وهي مسألة صارت كاشفةً، ليس فقط عن انقسامات العسكريين، ولكنها صارت بالغة الدلالة على صعوبة التلاقي حول بناء المؤسسية العسكرية، ما يطرح عقباتٍ كثيرة أمام دمج القوات غير المنخرطة في الجيش.
وفي هذا السياق، على الرغم من تطور الأداء العسكري لعملية "البنيان المرصوص" في سرت في المرحلة التالية لعملية "فجر ليبيا"، لكنها ما زالت تعمل تحت مظلةٍ سياسيةٍ مضطربة، ليس فقط بسبب اهتزاز الوضع الدستوري للمجلس الرئاسي، وإنما بسبب هشاشة علاقتها بالمؤسسة العسكرية في الإدراك الدولي لتصنيف الكيانات العسكرية في ليبيا، فعدم تصنيفها منظمات إرهابية لا يمثل الحل الملائم لتسوية وضعها داخل المؤسسة العسكرية.
ولعل المعضلة الأخرى التي واجهت تشكيلات غرب ليبيا تمثلت في أنه بينما اقتربت "البنيان المرصوص" من مراحلها النهائية في سرت، كانت مسارات الحرب الأهلية تتجه نحو تعميق التناقضات بين المجموعات المسلحة وتسارع الإعلان عن نقل الحرب إلى طرابلس، وهي تداعيات مثيرة للقلق بسبب تنافر المكونات المسلحة، واختلاف ولائها، وعدم وضوح خطها السياسي.
وبشكل عام، يمكن القول إن الوضع الحالي يعكس تغيراً جوهرياً في السياسة الليبية، فبينما كانت الكيانات المنبثقة من "فجر ليبيا" تحظى بميزةٍ نسبيةٍ خلال العامين الماضيين، سواء في قدراتها الذاتية أو علاقاتها الخارجية، فإن هذه الميزة تشهد تحولاً، في المرحلة الحالية، نحو قبول المشروع العسكري لحفتر بوصفه جزءاً أساسياً في التسوية السياسية، وهو ما يفضي إلى إجراء تغيرات واسعة في المسار السياسي.

الإطار الدولي بين السياسي والعسكري
وفي وقت متقارب، تبدو التحركات الدولية متغيراً مهماً في وضع ملامح التعامل مع الأزمة السياسية، فعلى الرغم من التوافق الدولي على مرجعية الاتفاق السياسي والمؤسسات المنبثقة عنه، تبدو الفاعلية الدولية للأطراف المنضوية تحت مظلة مجلس النواب أكثر وضوحاً من الدور السياسي للمجلس الرئاسي، بينما يلقى حفتر تأييداً واضحاً من مصر وروسيا.
وبينما ساهم تمكّن حفتر من فتح قنوات اتصال مع الجزائر في دعم المطالب بإعادة النظر في
اتفاق الصخيرات، فعلى خلاف ذلك، تراجع النشاط الدولي للمجلس الرئاسي، وذلك على الرغم من إنجازه العسكري في سرت، وهي نتائج ترجع إلى انقساماته الداخلية أمام القرارات الحيوية ودخوله في أزمة المشروعية. وعلى الرغم من التأييد الدولي للمسار السياسي، فإن المواقف الدولية تتقارب في مسألتين، هما دعم الكيان الحالي للجيش، كأساس للمؤسسة العسكرية، وأن الوضع الدولي ليس على استعدادٍ لتبني موقفٍ حاسم في هذه المرحلة، سياسياً أو عسكرياً.
وهنا، يمكن القول إن دور الجزائر يستعد لوساطة سياسية تشمل الأطراف الأساسية، ولذلك يمكن تفسير زيارة حفتر، من دون القبول بوضعه العسكري، بأنها محاولة للانفتاح على كل الأطراف السياسية، خصوصاً بعد اتساع الدور الروسي وتزايد التأثير المصري. فعلى الرغم من تداعيات زيارة حفتر ورئيس مجلس النواب الجزائر المثيرة للاهتمام حول التسوية السياسية، كان من اللافت أنه، في سياق هذه الأحداث، لم يخف حفتر سياساته العسكرية، مثل إعلان الجيش الليبي تعيين حاكم عسكري للمنطقة الغربية، أو نشر أخبار عن دخول قاعدة تمنهنت الجوية (سبها)، كما وجهت طائرة تابعة للحكومة المؤقتة ضربة جوية للكتيبة (19/ 9) في مدينة هون (الجفرة) التابعة لهيئة الأركان (طرابلس)، بادعاء تبعيتها لـ"سرايا الدفاع عن بنغازي".
في الوقت الراهن، تسير التوجهات الإقليمية نحو إعادة صياغة القيادة السياسية للدولة. وبالتالي، يمكن فهم تعامل الجزائر مع رئيس حكومة الوفاق فائز السراج وخليفة حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، بأنه لا يقتصر على محاولة الانفتاح على التغيرات التي تحدث في الملف الليبي، ولكنه يسعى إلى إعادة هيكلة السلطة السياسية، وهذا ما يمهد لتلاقي دول جوار ليبيا حول تعديل الاتفاق السياسي، أو البحث عن إطار آخر.
وفي ظل التمحور حول الاتفاق السياسي، حلاً أخيراً، لا يطرح هذا النمط من التفاهمات الإقليمية والانقسامات الداخلية مساراً سياسياً واضحاً، بقدر ما أنه يرجع بالأزمة إلى مرحلة اندلاعها في يونيو/حزيران ـ يوليو/تموز 2014، خصوصاً في ظل تعطل مشروع الدستور وضعف فرص العودة إلى دستور 1951. ومن ثم، فإنه في ظل اهتزاز الأرضية السياسية، سوف يشكل الدخول في الصراعات المسلحة الحل القريب لكيانات سياسية وعسكرية كثيرة، فالاستقطابات الداخلية والتنافس الإقليمي حول ليبيا عوامل تساعد على تقويض الحل السياسي.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .