عن مأساة المدنيين في حلب

عن مأساة المدنيين في حلب

29 ديسمبر 2016
+ الخط -
ما إن دهمت الآلة العسكرية التابعة للنظام السوري والمليشيات الموالية له شرق حلب، بدعم جوّي وبرّي روسي، حتى تعالت أصواتٌ في شبكات التواصل الاجتماعي ومنابر إعلامية سورية وعربية مهللة بـ "النصر المظفر"، وانخرطوا في صوغ مدحياتٍ وشعاراتٍ وأهازيج في الثناء على النظام والقوات والطوائف المؤيدة له. وفي المقابل، انصرف آخرون إلى إبداع مرثياتٍ في المدينة الشهباء، وانهمك سواهم في تبرير الهزيمة والبكاء على ضياع حلم ما يسمّى حلم "إقامة الدولة الإسلامية ببلاد الشام". وفي الأثناء، كان آلاف المدنيين تحت الأنقاض، أو يحتمون بالأقبية من أزيز الرصاص وزمجرة الصواريخ والمدافع. وكان الأطفال والشيوخ والنساء يفترشون الأرض، ويلتحفون العراء في عزّ الشتاء. ينتظرون مصيرهم المجهول، أو يبحثون عن مسلكٍ للنجاة من هول حرب ضروس، أتت على الأخضر واليابس، وحوّلت أعرق مدينةٍ في التاريخ إلى غبارٍ وركام ودمار. وأمام كارثية المشهد، بدا الحديث عن النصر ترفاً زائداً. فما فائدة إعلان النصر في أرض محروقة؟ وما جدوى القول بعودة المدينة إلى كنف النظام، والحال أنها مقفرة من سكّانها الذين توزّعوا بين القبور والسجون، وبين الملاجئ والمنافي؟ وما طبيعة النصر أصلا، هل هو انتصار النظام، بقوّة العسكر، على شعبه التواق إلى الحرية والكرامة والعدالة، أم هو انتصار الوافد الأجنبي على الاجتماع السوري كافّة؟ وإلى أي مدىً يمكن اعتبار تحييد المقاتلين والمتشدّدين عبر قصف المدنيين الأبرياء نجاحاً عسكرياً؟ وفي المقابل، يبدو البكاء على أطلال المدينة غير مجدٍ، بعد أن ارتهنت المعارضة السورية إلى صراعاتٍ داخلية، وتمّت عسكرة الثورة، وتغليب لغة البنادق على لغة الحوار والتوافق.
والثابت من متابعة شاشات التلفزيون وتقارير المراسلين والجهات الحقوقية الموثوقة أنّ أهالي حلب لم يأسفوا لرحيل المعارضة المسلّحة، كما لم يستقبلوا القوّات النظامية والمليشيات الموالية لها بالزهور والزغاريد والوجوه المسرورة المنبسطة. بل رأيتهم يغادرون مدينتهم العزيزة
 عليهم بوجوهٍ واجمةٍ، مكدودةٍ، شاحبةٍ، وبنظرات متحسّرةٍ، تائهةٍ، حيارى. كانت قلوبهم مكلومةً وأجسادهم منهكةً، كانوا مثقلين بهمومهم وأحلامهم الموؤودة، وجهودهم المهدورة في سبيل حرّية طلبوها ففرّت منهم إلى الأقاصي. وكانوا مثقلين بأمتعتهم وجراحهم، وأشيائهم الصغيرة وأشواقهم الكبيرة المصادرة، يبحثون عن مأوى وعن سكينةٍ في أرض لهم وليست لهم! كانوا توّاقين إلى ليلةٍ بلا قنابل، وبلا غازات قاتلة، وبلا مداهمات وبلا اعتقال وبلا حصار أو دمار. كانوا ينشدون ليلةً هادئة، يلتمّ فيها شمل العائلة، وينعم فيها الأطفال بالدفء والطمأنينة والنوم المسترسل. لم يكن المدنيون الخارجون من حلب فرحين بما حدث، فقد كان الموت أو الأسر يتهدّدهم في كلّ لحظة، وكان الخوف يسكن دواخلهم، وهم دفعوا غالياً ثمن حربٍ بالوكالة، اشتدّ فيها الصراع المسلّح بين الأطراف المتنازعة، وأصبحت معها بيوتهم مهدّمةً وعوائلهم مشرّدة، ومصالحهم معطّلةً وأحلامهم مؤجّلة، وبدا حاضرهم مشتّتاً ومسقبلهم غامضاً. لذلك كان الحديث عن النصر في خضمّ هذا الدمار الرهيب أقرب إلى اليوتوبيا منه إلى الواقعية. والمرجّح أنّ الفشل والهزيمة هما أعدل الأشياء قسمةً بين الناس، بعد معركة حلب، فقد فشل النظام في كسب ودّ الأهالي، ودخل المدينة عنوةً، وبتأييد من قوى خارجية، لا تحظى بشرعية داخل العمق المجتمعي السوري. وفشلت المعارضة في المحافظة على شعبيتها، وانخرطت في صراع مسلّح، غير متوازن، كانت عواقبه وخيمة .كما فشل المجتمع الدولي عموماً، والعرب خصوصاً، في إسناد الشعب السوري ومساعدته على تحويل حراكه الاحتجاجي إلى مسار سياسي، إصلاحي، يؤسّس للتعددية والديمقراطية والتنافس السلمي على السلطة.
وعلى خلاف ما يدّعيه بعضهم أنّ معركة حلب فصل الختام في الأزمة السورية، فإنّها في الواقع منعرجٌ خطيرٌ في مسار المأساة المشهودة في بلاد الشام، لما عرفته المدينة من تدمير وتهجير وانتهاك لحقوق الإنسان، ولما رسّخته المعركة من انقسامٍ حادّ، شقّ المجتمع السوري طائفياً وسياسياً، ووزّع الناس بين مؤيّدين للنظام ومعارضين له. كما أنّ ما اكتنف الصراع في حلب من تحكيم للسلاح واستقواء بالأجنبي في إدارة الخلاف البيني السوري ـ السوري لا يحلّ عملياً أزمة الانسداد السياسي في البلاد، ولا يستجيب لتطلّعات المواطنين إلى غدٍ أفضل. بل يُنذر باتّساع دائرة العنف والعنف المضادّ بين النظام وخصومه، وبإمكانية تحوّل الأزمة السورية إلى حرب استنزاف طويلة المدى، تزيد من تفكّك الدولة وتشظّي المجتمع، ومعاناة المدنيين، وترهن البلاد والعباد للخارج. وأمام هذا الوضع السوري المأزوم، أحرى بالقوى المدنية السورية الحيّة والمنظمات الحقوقية والدول العظمى الفاعلة الضغط على أطراف النزاع في سورية لتحترم حقوق المدنيين، والعمل على دفعها إلى بلورة خريطة انتقال سياسي، تضع حدّا لنزيف الدم في البلاد، وتقطع مع ممارسات الدولة الشمولية، وتفتح المجال لإقامة جمهوريةٍ سورية، توافقيةٍ جديدة، تبقى ممكنة على الرغم من السواد القائم.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.