عبث السياسة الخارجية المصرية.. استراتيجية غائبة ورهانات خائبة

عبث السياسة الخارجية المصرية.. استراتيجية غائبة ورهانات خائبة

27 ديسمبر 2016

وزير الخارجية المصري سامح شكري في ضيافة نتنياهو(10/7/2016/فرانس برس)

+ الخط -
تثير الأخطاء الفادحة في السياسة الخارجية المصرية التي يرتكبها النظام المصري الحالي تساؤلاتٍ كثيرة بشأن طبيعة تصوره لقراراته وتكتيكاته ودبلوماسيته وسياساته، في المنطقة العربية خصوصاً، وإقليم الشرق الأوسط عموماً.
ربما لا توجد حاليا أية استراتيجية للسياسة الخارجية المصرية، أو رؤية أو فلسفة لها، بدليل اتجاه نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى التحالف مع خصوم تقليديين لمصر، وأبرزهم الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة الأميركية، في مقابل الدخول في عداوات و"مكايدات" عجيبة مع أصدقاء مصر وأنصارها الحقيقيين وعمقها الاستراتيجي من العرب والأفارقة، والوقوف ضد القضايا العربية الاستراتيجية، وفي مقدمتها قضية فلسطين.

تداعيات خطرة
قام النظام المصري، من خلال مندوبه في مجلس الأمن، بعبث دبلوماسي مقصود، أخيراً، بشأن مشروع قرار إدانة الاستيطان الإسرائيلي، ولكن هذا القرار صدر في النهاية، وحمل رقم 2334، وطالب إسرائيل بأن توقف، فورا وعلى نحو كامل، جميع الأنشطة الاستيطانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية.
وهي فرصة نادرة، قرّرت فيها إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، عدم استخدام حق النقض (الفيتو)، واكتفت بالامتناع عن التصويت، حتى لو سلّمنا بأنه قرار رمزي وغير مؤثر، وأريد به مضايقة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، وفرض قيود شكلية على سياسات إدارته.
الخطوة المصرية صادمة، لكنها ليست مفاجئة لمن يرصد مسار السياسة الخارجية المصرية منذ زمن، بيد أن الأهم أن هذا "العبث الدبلوماسي" لم يؤثّر على صدور القرار من غير البوابة المصرية، عبر تعاون أربع دول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن (ماليزيا، السنغال، نيوزيلندا، وفنزويلا)، في طرح مشروع القرار، بعد إمهال مندوب مصر في المجلس حتى يوم 23 ديسمبر/ كانون الأول 2016.
تحليليا، يبدو أن سياسة مصر الخارجية تُدار بـ "القطعة"، وأن ثمة قراراً واضحاً بالوقوف ضد القضايا العربية الاستراتيجية، إذا كان ذلك يحقّق "مصلحة آنية" لنظام السيسي (مثالان أخيراً: التصويت بالامتناع على مشروع القرار الفرنسي بشأن حلب في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، والعبث بمشروع القرار بشأن إدانة الاستيطان الإسرائيلي في ديسمبر/ كانون الأول 2016).

يتعلق أخطر ما في السلوك الخارجي المصري الراهن بنتائجه ومآلاته، بغض النظر عن التبريرات الدبلوماسية والسياسية التي يقدمها أنصار النظام الحالي، والذين يمكنهم تبرير أربعة أفعال دبلوماسية متناقضة، يجري الانتقال بينها في مسافة يومين فقط. هذه الرباعية العجيبة: تبنّي المشروع، ثم طلب تأجيل التصويت عليه، ثم سحبه تماماً، ثم التصويت عليه بالموافقة أخيراً. لكن، يبقى السؤال الأهم: هل سيفيد ذلك السلوكُ المتناقضُ النظامَ المصري؟ أم سيرتدّ عليه بنتائج وتداعيات سلبية؟
ويمكن رصد الملامح والنتائج الأولية الآتية لهذا "العبث الدبلوماسي" الذي يقوم به النظام المصري الحالي:
1ـ مزيد من إضعاف الدور المصري في إقليم الشرق الأوسط برمته الذي يمرّ بمرحلة انتقالية شديدة الخطورة، قد تنتهي بإضعاف الدول العربية جميعها، من دون أي استثناء، وتقوية موقع إسرائيل وإيران في الإقليم؛ فالنظام المصري الحالي يوتّر علاقات مصر بالدول العربية والأفريقية، فضلا عن تركيا، وقد يؤدي ذلك إلى إحداث عداواتٍ مع شعوب هذه الدول، بلا أية فائدة حقيقية لمصالح الشعب المصري.
وحتى بافتراض اندلاع ثورةٍ مصرية في نطاق خمس سنوات، وربما أكثر، وهو أمر محتمل بقوة، فإن النظام المقبل سيحتاج وقتاً ليس قصيراً لمعالجة هذه الأخطاء، على الرغم من أن الدبلوماسية الشعبية قد تفيده فعلا، كما حدث بعد ثورة 25 يناير في تصحيح صورة مصر ومكانتها، وإظهار حرصها على علاقاتها الرسمية والشعبية مع العرب والأفارقة.
2- ضرب المكانة المعنوية لمصر، وترسيخ تراجع قوتها الناعمة، وابتعادها أكثر فأكثر عن مصالح محيطيها، العربي والأفريقي، وهما أكثر الدوائر أهميةً لسياستها الخارجية، ليس بسبب القرب الجغرافي فحسب، بل لأن ما يحدث فيها من تطوراتٍ يؤثر على مصر بشدة، على الصعيدين، المائي والأمني/ الاستراتيجي.
ويعكس هذا السلوك، في الواقع، امتداداً لمناورات الرئيس أنور السادات الذي أهمل أيضا تينك الدائرتين في سياسته الخارجية؛ بسبب سيطرة منظور براغماتي قصير النظر، يقوم على الالتحاق بالسياسة الأميركية خصوصا، والمعسكر الغربي عموماً، من دون إدراك عميق لمميزات موقع مصر الجغرافي والاستراتيجي، وتاريخها العربي والإسلامي الممتد الذي يمكّنها من إدارة توازنات وتحالفات مجدية وفعّالة على الصعيدين، الإقليمي والدولي، في حال توفّرت الرؤية الاستراتيجية الصحيحة والإرادة السياسية القوية، المدعومة بنظام ديمقراطي وتنموي في الداخل المصري، بما يحترم حقوق الإنسان المصري، ويعظم من قدراته وإمكاناته.
3- لم يأتِ سلوك الدبلوماسية المصرية بما تشتهيه سفن نظام عبد الفتاح السيسي من إثبات الحضور والأهمية والمكانة الإقليمية، عبر فتح قناة اتصال مبكرة مع الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب؛ فقد تلّقت إسرائيل "الصفعة الدبلوماسية الرمزية الأخيرة" من إدارة أوباما، وصدر القرار في كل الأحوال، على الرغم من المناورات المصرية.
أما اتصال ترامب بالسيسي، فليس أكثر من لفتة آنية، لن تكون مؤثرة في سياسة ترامب الخارجية، وهي تماما مثل إشادة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، بإدارة الرئيس السابق، محمد مرسي، لدورها في تهدئة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إبان حرب غزة الثانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012. وهي إشادةٌ لم تمنع دعم واشنطن الحقيقي إقصاء مرسي، ولم تمنع انقلاب 3 يوليو 2013؛ فالمسألة هنا تتعلق بتوافق آني بين إدارة مصرية وسياسة قوة عظمى، لكنه لا يؤثر، بالقطع، على استراتيجية واشنطن وسياساتها وخططها في الشرق الأوسط.
4- على اللاعبين الإقليميين، مثل مصر، مراعاة أن التوافق مع مصالح الدول الكبرى، أو الكيان الإسرائيلي، في منطقة استراتيجية ومهمة مثل الشرق الأوسط، قد يأتي بنتائج سلبية على هؤلاء اللاعبين أنفسهم، فضلاً عن تضرر مصالح الشعوب العربية بطبيعة الحال. ولذا، يضرّ كل عبث بقضايا الشعوب وحقوقها (في فلسطين وسورية والعراق وغيرها)، في الواقع، بهؤلاء اللاعبين الإقليميين أنفسهم؛ كون مصالح شعوبهم هي مع دعم هذه القضايا، وليس المساومة عليها أو التلاعب بها.

5- يكشف قرار مجلس الأمن 2334 بوضوح أن واشنطن عندما تريد تنفيذ شيء في قضية فلسطين ستفعله، بغض النظر عن رأي إسرائيل وضغوطها ولوبياتها ومناصريها. ولئن كان صحيحاً أن إسرائيل تؤثر في القرار والمؤسسات الأميركية، فمن الصحيح أيضاً أن القوة الدولية (واشنطن أو موسكو) يمكنها، في النهاية، إرغام القوة الإقليمية على الإذعان (تل أبيب وطهران)؛ أي أن البعد الدولي يتفوق على البعد الإقليمي عادةً، إذا استبعدنا حالاتٍ استثنائيةً وتاريخيةً في الحقيقة، ومنها حالة حلف بغداد.
واستطراداً في إمكانية تأثير الإقليمي على الدولي، يرى باحثون أن الإطار العربي نجح عندما كان متماسكاً نسبيّاً في إفشال حلف بغداد (أو منظمة الحلف المركزي) الذي نشأ عام 1955، على الرغم من أنه يعكس إرادة أميركية – بريطانية لإدارة شؤون منطقة الشرق الأوسط وتحالفاتها؛ فقد انهار الحلف بعد خروج العراق منه، إثر ثورة 14 يوليو/ تموز 1958، وبذا تغلّبت إرادة إقليمية على إرادة دولتين غربيتين، كانتا تلعبان دوراً قوياً في توجيه المواقف الغربية عموما. ويجب التذكير بأن ذلك حدث في سياق استثنائي، جرى فيه توافق إرادات عربية فعالة آنذاك، أي العراق ومصر والسعودية. وهذا استثناءٌ يؤكد قاعدة تأثير الدولي على الإقليمي، ولا ينفيها.
6- ثمّة حدود للأداة الدبلوماسية في تنفيذ الاستراتيجيات والسياسات الخارجية؛ فالدبلوماسية أو الأداة الإعلامية والدعائية، مهما بلغ نجاحها، لا يمكنها أن ترفع نظاماً فاشلا، أو تقيله من عثراته. وبعبارة أوضح، لن تزيد هذه المناورات الدبلوماسية وزن النظام المصري الراهن خارجياً، لا إقليمياً ولا دولياً.

كيف يمكن أن تستعيد مصر دورها؟
تبقى، في هذا السياق، ثلاث أفكار مهمة؛ أولها أن العرب لا يكرهون مصر أبداً، كما بدأ بعض مؤيدي نظام السيسي يقولون ويردّدون، بل يريد العرب والأفارقة أن تتصرّف مصر الكنانة بما يتناسب مع إرثها التاريخي وثقلها البشري والاستراتيجي ومصالح شعبها. الفكرة الثانية هي أن استعادة مصر دورها العربي والإقليمي تتوقف على العوامل الآتية:
1- التخلص من النظام الانقلابي، وعودة الجيش إلى ثكناته.
2- تبني نموذج ديمقراطي داخلياً، يسمح بأن تكون مصر جاذبة للعرب، وليست منفرة لهم.
3- أن يكون لمصر الجديدة، بعد التخلص من الانقلاب، موقفٌ واضحٌ من الكيان الإسرائيلي وداعم لمقاومته ومقاطعته وعزله، على كل الصعد الاستراتيجية والثقافية والاقتصادية، بما في ذلك دعم المقاومة الفلسطينية المسلحة.

4- تمييز المواقف المصرية من القضايا العربية، وفي مقدمتها قضايا فلسطين وسورية والعراق وليبيا واليمن، عن المواقف الدولية والإقليمية، وبالذات الأميركية والروسية والإيرانية والإسرائيلية منها؛ فأي تقارب مصري مع أي طرف من هذه الأطراف الأربعة سيضعف مواقف مصر ومصالحها، عاجلا أم آجلا.
ويجب التذكير هنا بقاعدة مهمة، أنه ليس قائداً إقليميا من ينفّذ إرادة دولية، فالقائد يتحمل عبء تنفيذ سياسات استقلالية، قد تصطدم بإرادة القوى الدولية النافذة في الإقليم، عبر أدوات اختراق وتغلغل متعددة.
وأخيرا، تتعلق الفكرة الثالثة بأن المهم، بعد قرار مجلس الأمن 2334 رفض الاستيطان الإسرائيلي، هو كيف ستتحرك السياسات العربية مستقبلا، وكيف ترسم استراتيجية جديدة لدعم القضايا العربية المختلفة، وضرورة التوقف عن ترويج أية مبادرات سلام أو تصالح أو تسوية مع الكيان الإسرائيلي؛ إذ على الخطاب الدبلوماسي العربي أن يتراجع تماماً عن فكرة التسوية، سواء عبر "المبادرة العربية للسلام" أوغيرها؛ فلا معنى لأي طرح دبلوماسيٍّ، لا تدعمه أدوات القوة الأخرى؛ فالسياسة الخارجية ليست "كلاماً دبلوماسياً ناعما" دائما، بل هي تصميم على تنفيذ الأهداف والبرامج والاستراتيجيات، وتعبئة كل الموارد المتاحة في سبيل تحقيقها.
وختاماً، أمام شعب فلسطين والشعوب العربية فرصة حقيقية، بشرط تصحيح أخطاء المرحلة الماضية، والقيام بمراجعاتٍ عميقة وإصلاح داخلي ديمقراطي وتنموي واجتماعي وثفافي، علّه يمنع الكارثة التي تقترب حثيثاً من أرض العرب. أما الاستمرار في السياسات العربية الحالية فسيزيد من عمق المأزق العربي الذي ليس في وسع "العبث الدبلوماسي"، أو الخطابي، تغطيته أبداً، لا داخل مجلس الأمن، ولا خارجه.
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل