من غادة إلى أُنسي.. وغسّان

من غادة إلى أُنسي.. وغسّان

23 ديسمبر 2016
+ الخط -
تُراني سأنشرُ رسائل الحب كلها التي في حوزتي؟ تسأل غادة السمّان نفسها، في مقالتها في "القدس العربي"، تجيب: "بالتأكيد لا، سأنشر المبدع منها، أو الآتيةَ من مبدعٍ ما في حقله، مثل بليغ حمدي، مثلا، المبدع في حقل الموسيقى". 

إذن، بليغ حمدي بعد أُنسي الحاج وغسّان كنفاني. وربما قبله وبعده "مبدعون" آخرون، أرسلوا رسائل حب إلى الكاتبة الشهيرة بجرأتها في الكتابة (سابقاً؟)، وفي الحياة ربما. تعِدُنا (أو تتوعّدنا؟) بهذا. وللحق، ثمّة قيمةٌ أدبيةٌ ظاهرةٌ في رسائل أُنسي إليها، ما يجعلها نصوصاً قريبةً من قصائده (ومنثوراته بتعبير عبده وازن). هذا واضحٌ، لكنه واحدٌ من تفاصيل المسألة التي يشعلها نشر الرسائل السبع هذه. والبادي أن غادة اضطرّت إلى توضيح ما احتاج إلى توضيح، في مقالتها تلك، عندما تحدّثت عن ذكريات صداقةٍ جمعتها بأنسي، وزياراته المتكرّرة لها ولزوجها الذي ربطت صلة "مودةٍ جميلة" بينهما. وإذ تلحّ على انتفاء العنصر "الفضائحي" في رسائل أُنسي إليها، ولم ير بعضهم غيره فيها، فهذا صحيح، أو لا يليق أن نراه غير صحيح، إذا كنا فعلاً نعتنق احترام الذات وفردانيّتها، خصوصاً في عالم الأدب والفن وعوالم صنّاعه. وأن يكتب الشاعر إلى غادة "إنني أحب أن أحبك" و"ليتك تعلمين كم أنت كل شيء في صيرورتي"، و"أحياناً كثيرة، أحتقر نفسي، لأنني أكلمك عن نفسي"، و"أشعر بجوعٍ إلى صدرك، بنهمٍ إلى وجهك ويديك .."، أن يكتب هذا (وغيره) في شبابه المبكّر، فذلك يعين كثيراً في استكشاف أجواء أُنسي في طورٍ من محطات سيرته كاتباً مبدعاً، ومجدّدا بالضرورة.
ثمّة أفكارٌ في الحب نفسه، وفي أشواق الذات إلى خلاص. ثمّة تولّه مشبوب بمحبوبة. ثمّة كثيرٌ غير هذا كله في الرسائل القصيرة التي صنعت غادة السمّان حدثاً جميلاً بنشرها بعد أكثر من ستين عاماً على كتابتها (والاحتفاظ بها). هذا هو الأهم في قراءة الرسائل، أهم من تصويب حراب الأخلاقيات إياها على غادة، وإنْ يجوز، مع تحفظٍ طفيف، التأشير إلى مقدارٍ من الأنانية لدى الكاتبة في الذي أقدمت عليه، وهي التي كانت، يوماً، جموحةً في طيرانها الجريء "بلا أجنحة" (بتعبير غالي شكري). ومن قال إن على الأديب أن يكون خلواً من الأنانية، ورسولياً يُخفيها؟
ليس الإشكالُ كبيراً في مسألة "رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان" (دار الطليعة، 2017)، لكنه قائمٌ طبعاً في ما يخصّ، ربما، إحالاتٍ قانونية، غير أنه كبيرٌ في مسألة "رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان" (دار الطليعة، الطبعة الأولى، 1992)، لأن القيمة الإبداعية فيها قليلة، ومقادير الشخصي المحض وفيرة، وإنْ تبقى هذه الرسائل (كتبت غادة إن ثمّة غيرها احترقت)، في كل الأحوال، ذات قيمة وثائقيةٍ، وثمينة في أهميتها للتعرف على غسّان كنفاني المتعدّد، في مشاغله ومناشطه وعوالمه، على صغر سنّه لما استشهد (36 عاماً). بدت غادة في نشرها تلك الرسائل، المتأخّرة بضع سنواتٍ عن رسائل أُنسي، حريصةً على تأكيد أنها وغسّان تعاهدا على نشرها يوماً ما، وتأكيد أن نتفاً منها نشرها غسّان نفسه في عواميده الصحافية. كما أنها ألحّت على أن يزوّدها من في حوزته/ها رسائلها إلى غسّان بها لتنشر في الكتاب نفسه. وتُسعف هذه التفاصيل كلها، وغيرها، في رمي التهم والدروس والمواعظ والتجريحات التي نالت من الكاتبة الشهيرة، لإقدامها على نشر تلك الرسائل التي كتب غسّان في واحدةٍ منها إلى غادة "أنت في جلدي، وأحسّك مثلما أحسّ فلسطين".
ثمّة شجاعةٌ محمودةٌ لدى غادة في ما بادرت إليه في موقعتي أُنسي وغسّان، وثمّة قسط من الأنانية غير الخافية، والمحبّبة. ولكن، لو كنتُ في موقع من ينصح صاحبة "الجسد حقيبة سفر"، لأشرت عليها أن تنشر ردوداً جديدةً على رسائل الاثنين إليها، تنكتبُ إليهما، مخاطبيْن متوفيّين، فيها استعاداتٌ ومراجعاتٌ في الحياة والحب، فيها تذكّر وتخيّل، فيها ماضٍ وراهن ومستحيل. كان الأمر سيصير مبتكراً، وأدباً خالصاً. فعل هذا إلياس فركوح، عندما نشر رسائل صديقه مؤنس الرزاز إليه، فجاءت لوناً خاصاً في أدب الرسائل. .. لو تفعله غادة عندما تنشر رسائل بليغ حمدي (وغيره) إليها، قريباً، أطال الله عمرها.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.