جريمة برلين... اليمين المتطرّف يكسب

جريمة برلين... اليمين المتطرّف يكسب

23 ديسمبر 2016

شموع وزهور في موقع حادثة الدهس في برلين(22/12/2016/فرانس برس)

+ الخط -
تأتي جريمة دهس شاحنةٍ يسوقها، حسبما يروجُ حتى الآنَ، لاجئٌ مسلمٌ، رُواد سُوق عيد الميلاد في قلب برلين، أسفرت عن مقتل 12 شخصاً، وإصابةِ عشراتٍ، في ظرفٍ يستحضر فيه الإعلام ذكرى أحداث التحرّش الجنسي الجماعي في ساحة محطة القطارات الرئيسية في مدينة كولونيا، حيث تعرّضت مئات النساء، ليلة رأس السنة الميلادية الماضية، لاعتداء من نحو ألف لاجئ مخمور، تبدو على وجوههم سحنات عربية أو شمال - أفريقية، قلبت الرأي العام في قضية اللاجئين، وزادت من تذمر المجتمع من سياسة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي انتهجت، منذ البداية، في ملف اللاجئين، سياسةً باتت تعرف إعلاميا بـ "ثقافة الترحيب"، وفتحت حدود ألمانيا على مصراعيها، لدخول قرابة مليون لاجئ، أغلبهم من المسلمين في وقتٍ سارعت فيه دول داخل الاتحاد الأوروبي إلى إيصاد أبوابها في وجوههم، ضاربةً بذلك قيم حقوق الإنسان، واتفاقية جنيف، والمواثيق الدولية عرض الحائط.
ما يزيد هذا العمل الإرهابي خِسّة وبشاعةً أن يقترفه، إن صحّت التحريات الأولية، لاجئ مسلم انقطعت به السبل، وتقطعت به الأسباب، وضاقت عليه أرض المسلمين بما رحبت، فوجد ملاذاً آمناً، يضمن له حياة حرة كريمة في بلدٍ ذي ثقافة مختلفة، لا يدين بدينه، يتساوى فيه، على الرغم من ذلك، مع باقي أهله. وسيجعل هذا الحدث جذوةَ المشعل الذي ترفعه أصوات العقلاء، والمنصفين، والداعين إلى التسامح، والتعايش السلمي في المجتمع الألماني تخبو رويداً رويداً، في وقت سيبلغ فيه صياح دُعاة الحقد والكراهية عنان السماء، أولئك الذين سرعان ما حمّلوا، حتى قبل أن تتضح معالمُ الجريمة، أو تؤكد الشرطة هويةَ الجناة، ميركل، مسؤولية ما حدث، واعتبروا سياستها سبباً مباشرا فيه. وقد عبّرت المستشارة عن هذا الإحباط العميق الذي أصاب المجتمع، جرّاء عملية الدهس بقولها: "أعلم أنه سيكونُ من الصعب جدا علينا جميعاً، إذا ما تأكّد الأمر، أن نتحملَ كَوْنَ الشخص الذي ارتكب الجريمة، كان قد طلب اللجوء والحماية في ألمانيا".
أعاد هذا الهجوم إلى الأذهان العمليةَ الإرهابية التي استهدفت في 14 يوليو/ تموز 2016
مدينة نيس الفرنسية، وأودت بحياة 84 من المدنيين في أثناء احتفالهم باليوم الوطني الفرنسي. وهو ما يُذكي هاجسَ الخوف لدى الأوروبيين من أن بلدانهم لم تعد في منأىً عن براثن الإرهاب التي باتت تصيبهم وتهدّدهم في عقر دارهم. والواقع أن تعاقب الأحداث الإرهابية التي أودت بحياة عشرات الأبرياء إلى الآن في دول أوروبية كثيرة، وتهدف إلى النيل من قيمتي الأمن والأمان اللتيْنِ كانت تتنعم فيهما مجتمعاتها، تجعل الحكومات أمام عقبةٍ كبيرة في سعيها إلى التوفيق بين استتباب السلم وضمان الاستمرار في التمتع بالحرية التي اعتاد عليها المواطنون، من دون أن يُضطروا إلى الاستغناء عن أحدهما، في سبيل الحصول على الآخر، أو إلى تغيير نمط عيشهم اليومي، وهذا بالذاتِ ما يصبو الإرهابيون إلى تقويضه وعرقلته.
ويزيد الطينة بلة شُيوعُ الأخبار الكاذبة التي تنتشر عقب هذه الأحداث في المواقع الاجتماعية، فتُؤلِّبُ بين أطيافِ المجتمع المختلفة، وتؤججُ نار الغضب، والحقد، والكراهية المستعرة في قلوب شريحةٍ من المجتمع الألماني إزاء المسلمين، واللاجئين، والأجانب. ولا تقل هذه الافتراءات خطورةً على الهجمات الإرهابية، وتؤدي إلى النتيجة نفسها؛ لأنها تهدّد حياة أبرياء كثيرين، إذ غالباً ما تُصاحبها اعتداءاتٌ على الملاجئ، والمساجد، والمرافق التي تُعنى بشؤون الأجانب.
المستفيد الأول من هذه الأحداث التي ستزيد من حدة حالة الاستقطاب، وستؤزم الأوضاع المشحونة أصلا بالحقد، والكراهية، هو اليمين المتطرّف، والقوميون الشعبويون، وحملات التشويه المنهجية التي يتعرّض لها المسلمون بصفة عامة؛ فكل المؤشرات تدل اليوم على ارتفاع حصة الأحزاب اليمينية من المقاعد البرلمانية في الانتخابات المقبلة. وتؤكد استطلاعات الرأي أن حزب "البديل لألمانيا"، المعادي للإسلام، استطاعَ أن يحقق ارتفاعاً مهولاً في حين فقدت كل الأحزاب الأخرى نصيباً مهماً من الأصوات. كما لم يعد يخفى على أحد أن قضية الأمن الداخلي، مع ما تحمله من تقييد للحقوق، والحريات، وإطلاق يد المخابرات، والأجهزة الأمنية، وملف اللاجئين، وسياسة الاندماج، سيهيمنون لا محالة على هذه الانتخابات، وستُضْطر الأحزاب الديمقراطية الكبرى التي بات يضيق عنها الخناق أكثر َمن أي وقت مضى، إلى الإذعان إلى دعوات الشارع، في هذا الصدد، وستتّجهُ من أجل إرضاء الشعب وضمانِ ولاء ناخبيها إلى انتِهاج الأسلوب الشعبوي في خطابها السياسي أكثَر من قبل. كما أن الائتلاف الحكومي المقبل سيعمد، بلا شك، إلى سن قوانين لن تكون حتما في مصلحةِ المسلمين.
30BE0B7F-FB6C-47D5-9BEE-A6E981F2E3E9
30BE0B7F-FB6C-47D5-9BEE-A6E981F2E3E9
عبد الكريم أهروبا

كاتب مغربي يقيم في ألمانيا، عضو في الاتحاد الألماني للصحفيين الأحرار

عبد الكريم أهروبا