تحطيم الهوية

تحطيم الهوية

17 ديسمبر 2016

(سلطان باشا الأطرش)

+ الخط -
ترى دراسات غربية حديثة "أن عملية البحث التأملية للتمايز والتشابه، العام والخاص، النحن والآخر، العالمية والخصوصية، في صلب التكوينات الثقافية للبشرية. هي أكثر من مجرد سؤال عن الهوية، بل هي المؤجج الدائم لإعادة اكتشاف الإنسان نفسه". وقد اكتشفت المجتمعات الغربية، على لسان الباحثين الاجتماعيين فيها، أن "العناية بالإرث الثقافي وجعله قاعدة ومنطلقاً، وركيزةً للتطور والإبداع، هي التي تساهم في إيجاد إنسان مبدع جريء حرّ مبتكر متطور وقوي، ينظر لذاته بالاحترام، وكذلك للآخر المختلف عنه". لذا، فقد حرصت هذه المجتمعات كثيراً في الفترات الأخيرة على تكريم رموزها الفكرية والثقافية والشخصيات الوطنية المؤثرة بشكل عميق في التحولات الإيجابية لهذه المجتمعات، لأنها تشكل الداعم الوحيد الذي يحمي هوية الإنسان من الوقوع في هوة الانحدار والضياع وسلطة العنف، وهذا ما يجعلك لا تمرّ بمدينة ألمانية مثلاً من دون أن يلاقيك اسم غوته على تماثيلها وفي حدائقها، أو من دون أن ترى نصباً لانشتاين، ولماركس، ولنيتشه، أو للأخوين غرين، لكنك لن تجد أبداً تمثالاً لهتلر، ولا أي تمثال لأي رئيس وزراء حكم البلاد، لأنه لا ولن يشكل دعامةً في البناء، بل على العكس تماماً.
كما أنك لن تدخل مدينة في إسبانيا مثلاً من دون أن تلاقيك شخصيات دون كيخوتة، وتماثيل لسرفانتس، وستجد الساحات مسماةً باسم لوركا مع تماثيله الكثيرة، وهو يحمل حمامة انطلقت مع روحه نحو العالم، وستجد قصائده محفورة على شوارع لابابييز. ولن تجد اسما أو تمثالا لأي رئيس للوزراء، ولا حتى لملك إسبانيا، على عكس ما قامت به الحكومات الدكتاتورية التي جعلت من صور القائد وتماثيله الموجودة في كل زاوية العامود الثقافي المنخور بالسوس الوحيد الذي تستند عليه شخصيات الجيل الجديد، إذ أنك تدخل دار الأوبرا في سورية أو مصر أو ليبيا ولا تجد تمثالاً لفيروز بل تمثالاً للقائد. وتدخل أهم مكتبة ولا تجدها قد حملت اسم ابن عربي أو ابن سينا أو ابن خلدون، بل تجدها حملت اسم الطاغية. وتذهب إلى وزارة الثقافة السورية، ولا تجد أي اسم أو تمثال لنزار قباني أو لمحمد الماغوط أو لعبد السلام العجيلي، بل هو تمثال الرئيس الواحد الأحد، ولم يكن هذا عبثيا يوما. وقد يكون هذا، بالإضافة إلى الخوف المزروع من سنوات، هو ما جعل كثيرين لا يساندون الثورات التحريرية النهضوية في بلادنا، إذ لم يستطع هؤلاء، بالاعتماد على هويتهم الفكرية، أن يميزوا بين الوطن، برموزه الثقافية والفنية، وشخصية الرئيس التي كانت محفورةً على كل دفتر مدرسي، وعلى كل ليرة، وعلى كل علبة محارم.
في سورية، حاول الأسد الأب، ومن بعده الوريث الابن، تهميش المثقفين والمبدعين الحقيقيين، أو سجنهم ونفيهم، كما حاول محو أهم مراحل التحول الفكرية والسياسية مرت على سورية، بتغييب رموزها حتى في كتب التاريخ وإخفاء كل أسماء الشخصيات المؤثرة في الخمسينيات، وكل ما نعرفه هو الاستقلال، ثم الانقلابات التي لم تنتهِ الا بشخصية الرئيس الخارقة، وهو وحده مصدر النهضة الكاذبة التي كان من سرقها وقتلها.
بعد خمس سنوات من أعظم ثورة في تاريخ سورية المعاصر، يدخل وفد يضم ضباطاً روساً من قاتلي الشعب السوري إلى مضافة سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى، في بلدة القريا في السويداء. ويشكل اسم سلطان الأطرش في الهوية الفكرية والثقافية للإنسان السوري رمزاً حقيقياً للكرامة والعزة، ويحظى من كل المجتمع السوري باحترامٍ عالٍ، لأنه الجريء الذي بدأ وقاد الثورة السورية ضد المستعمر الفرنسي، ولأنه الذي لم يقبل باستلام أي منصب سياسي بعد استقلال سورية، ولم يقبل أبداً المساومة على وحدتها، إذ رفض قيام دولة طائفية في جبل العرب، وهو يشكل لأبناء محافظة السويداء أهم رمز وطني فكري أخلاقي في كل هويتهم.
دخول الوفد الروسي إلى مضافته قبل أيام هو إحدى محاولات تكسير الرموز الوطنية التي مازال يقوم بها نظام الطاغية، وهي ليست حدثاً عابراً أو بسيطاً، بل هي دعس بالجزمة العسكرية الروسية على كرامة الإنسان السوري عامة، وإنسان جبل العرب خصوصاً، إذ لم تزل هذه المضافة، وبكل دلالاتها، المكان الذي رفض أي احتلال أجنبي لبلادنا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى، فقد حاول نظام الأسد تحجيم دور سلطان الأطرش، فقد منع قبل سنوات إحياء يوم وفاته السنوي، واعتقل كل من يحضره. كما حاول أن يزور التاريخ ويزور الدور المتفرد للرمز الوطني، وأبقى على تماثيل الأسدين التي تتوسط مدينة شهبا وكان أحدها في ساحة السويداء الرئيسية، وقد حطمه وأحرقه الناشطون في المحافظة.
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
ميسون شقير

كاتبة وإعلامية سورية

ميسون شقير