كيف بالله تحكم من يكرهك؟

كيف بالله تحكم من يكرهك؟

15 ديسمبر 2016
+ الخط -
أنظر إلى حلب، وأقول لنفسي متعجبا، خصوصاً حينما أرى حكّام العالم المتحضر يسلمون السلطات لخلفهم بالأحضان والقبلات والورود، وأقول: كيف يحكم العربي بلاداً تكرهه، وتحمل السلاح في وجهه؟ هل لو كان العرب، بالفعل، لا يحبون الغناء، كما يذكر بعض الفقهاء، كانوا عملوا للغناء حادياً في الصحراء أمام الإبل؟ وهل كان من الممكن أن ينتقل الغناء واللحن والطرب من سبأ وحضرموت وفارس ورومية إلى بطحاء مكة والمدينة؟ وهل لو لم يكن الشعب التركي عامة يحب بالفعل سلطته الحالية؟ هل كان له أن يتصدّى عاريا للرصاص وجنازير الدبابات والقتل في الميادين، في آخر محاولة انقلاب كسر فيها شوكة العسكر على الشعب، بعد خمسة انقلابات سابقة، دفع فيها الثمن غالياً من حريته وكرامته؟ وهل لو كانت النخبة المصرية التي تحب شعبها في القصص وأغاني الحصاد خلف النورج والمحراث ومسرح الغرفة والجرن وروايات عبد الرحمن الشرقاوي و"عودة الروح" و"عودة الوعي" وحرافيش محفوظ في الوكالات والبوظة والقرافة، هل لو كانت تحب الديمقراطية بالفعل، وحسْم الصناديق الخرساء البكماء، وليس عطايا الحزب الوطني ولجنة السياسات والاتحاد الاشتراكي، هل كان لهم أن يقفوا مع العسكر وتسلم الأيادي، بعدما حطموا الصناديق وبالوا عليها، من أجل "صناديق نذور العسكر" التي توزع عليهم مساء في شكل منح وجوائز أو حفلات لعمر خيرت في دار الأوبرا، أو جوائز تقديرية أو نيلية أو تشجيعية، أو جوائز حتى باسم قناة السويس الجديدة، بعدما يتم بيع فائض اللؤلؤ المنتج والزعفران والكابوريا.
هل بعد ذلك تستطيع أن تنظر إلى حلب، وتقول لبشّار، والذي ما زالت النخبة نفسها تحبه كالإصرار على المعصية، وتقول له، كيف تحكم مدينةً تكرهك؟ فلو كانت حلب تحبك لما هدمتها من السماء بالصواريخ والبراميل. ولو كانت حلب تحبك، لسلمت نفسها لك بموسيقاها وعنبها وقدودها الحلبية بالزغاريد والرقص، كما تفعل كل المدن المحبّة. لو كانت حلب تحبك، لأبعدت عنها من يكرهك طوعاً، من دون طائرات روسية وبدون (الفيتو الروسي أو الصيني). ولو كان من يكرهك قليل جدا، فما لزوم هدم مدينة كاملةٍ من أجل قلة في عداد الألف أو أقل، فلماذا هدمت المدينة على بكرة أبيها وأمها؟
في الكتب، نرى العرب، بعد سد مأرب، وهم يفرّون للعيش بعد الخراب، يفرّون إلى مكّة والمدينة وعُمان والشام وفلسطين، قبائل مختلطة مناذرة وغساسنة إلى بلاد الحيرة من فقراء ومستورين ومن تحلّى منهم بعجمةٍ أو سواد، فكانوا كلهم ضيوفاً على ضيوف أو أصحاب أوطان، وما وجدنا الواحد أبداً يريد، بكل عنف، أن يحكم مدينةً تكرهه، فيحولها إلى كومةٍ من تراب، لم نر ذلك إلا في حلب، وأنت درست الطب، فهل أمات طبيبٌ مريضاً وهلكه، لأن به عيناً كريمة لا تحبه؟ واضح أن بشّار يريد أن يحكم ديدان القبور، أو علّه يريد أن يحكم البحر، حينما يتوجّه بالمراكب مع زمرته، بعدما يتم ردم حلب وموتاها تحت الأنقاض بجرافاتٍ روسيةٍ حديثة الصنع، يتم تجميعها في بلاد البلغار.
ولكن، هناك شيء لا تستطيع الكراهية أن تحكمه، هو موسيقى العالم وضحكة الطفل والبحر أيضا، ورحلة الشقاء والتاريخ من سبأ حتى حلب، تلك ديمومة الغناء والسرد والرواية في التاريخ التي تلفظ دائماً قسوة الطغاة، وخيانة الكهنة أو التلاميذ أو النخبة، وتضعهم، في القبور، مع أبرهة ونيرون، وتضع الآخرين بالقرب من النجاشي والمتصوفة والصالحين. ليست الغلبة بكمية القبور التي تتركها في أجساد الخصوم، فسد مأرب أغرق كثيرين، وصحراء العلمين مليئة بالقبور، وكل رمال جزيرة العرب مليئة بالقبور. ولكن، في المغارب يغني التاريخ خلف حادي الإبل، بأنه هناك كان غناء في بلاد العرب، وكانت هناك ميلاء وغصين والكثير، وكانت هناك مدينة جميلة اسمها (حلب) هدمها حاكم اسمها بشّار من ألف سنة، وكان قد أخذ الحكم من أبيه في ربع ساعة، بعد تغيير دستور البلاد، ثم بناها العرب، وعادت أجمل مما كانت، فهل ثمّة قبر فيها لذلك الحاكم، قال المؤرخون، علم ذلك عند علاّم الغيوب.