البحث عن استراتيجية خليجية

البحث عن استراتيجية خليجية

12 ديسمبر 2016
+ الخط -
جاءت قمة قادة دول مجلس التعاون الخليجي، والاجتماعات الثنائية، في البحرين الأسبوع الماضي، لتدفع النخب الخليجية إلى الحديث حول ضرورة الاتحاد الخليجي في المرحلة الحالية، لمواجهة التحديات الإقليمية. لكن واقع الدول الخليجية ليس بالشكل الذي يمهِّد لأي اتحاد، ولا كما تُظهِرُه الصور الكرنفالية للقاءات القادة، فهذه الدول لا تتفق فيما بينها على سياسةٍ خارجيةٍ موحدة، لأنها لا تتفق على تعريفٍ واحد لطبيعة مصالحها وأهدافها في الإقليم، أو هوية خصومها. وحين يحصل اتفاقٌ بينها على ملفٍ إقليمي ما، فإن ضعف الثقة بينها يطغى على عملها، والحزازات بين بعض دول الخليج، والخصومة بينها في الساحات العربية المشتعلة، واضحة جليّة. إذا استثنينا العمانيين الذين يرغبون في استثناء أنفسهم من أي تكتلٍ خليجيٍّ، ذي أهدافٍ إقليمية، وافترضنا أن بقية الدول ستعمل، بالفعل، ضمن استراتيجية موحدة، فما هي تلك الاستراتيجية؟
يتغير الواقع الإقليمي بسرعة، وربما يربك الفاعلين الإقليميين. بالنسبة لدول الخليج، تزداد الملفات الإقليمية سخونة، وهم أطرافٌ فاعلة في الصراع على تحديد عناوينها ووجهتها، لكن التغيّر الإقليمي لا يقتصر على اشتعال الساحات العربية بالحروب الأهلية، وإنما يتعدّى ذلك إلى الدور الأميركي الذي يتراجع بخصوص تفاصيل المنطقة، ويحمِّل حلفاءه مسؤولياتٍ أكبر في إدارتها. تجلَّى هذا في "عقيدة أوباما"، حيث خفض كُلَف التدخل مقدّمٌ على تحقيق رغبات الأصدقاء، وهذا النهج الذي ينكفئ عن الغوص عميقاً في بحر أزمات المنطقة مرشحٌ للاستمرار في عهد دونالد ترامب، ما يجعل دول الخليج أمام استحقاقاتٍ لم تعهدها، وتحدياتٍ كبيرة لملء الفراغ الإقليمي، خصوصاً مع استفادة إيران من هذا الأمر، لزيادة حضورها في المنطقة، وإيران هذه، بتعريف بعض دول الخليج على الأقل، عدو ومنافسٌ أساسي، يُفترض أن تُبنَى السياسات والاستراتيجيات لمجابهته.

في ظل هذه المعطيات، تقدّم النخبة الخليجية، على اختلافاتها، النصائح لصنَّاع القرار، بشأن ما ينبغي عمله لإدارة الصراعات الإقليمية. تسعى النخب الإسلامية، المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، إلى دفع السعودية تحديداً نحو خياراتها في المنطقة، لتخوض السعودية حروب "الإخوان"، وتنصرهم على خصومهم. ينصح هؤلاء صنَّاع السياسة السعودية بالتحالف مع الجماعات الإسلامية، و"استخدامها" رأسَ حربةٍ في مواجهة إيران وحلفائها، ويُذكّرون باستخدام السعودية "الإخوان المسلمين" في مواجهة جمال عبد الناصر، والتيارات القومية واليسارية في المنطقة العربية، ويرون أن هذا نموذجٌ ناجح قابل للتكرار اليوم. تودّ النخب الإسلامية، في الخليج وبقية الوطن العربي، تفكيك الممانعة السعودية في توليها السلطة في الجمهوريات العربية، وهي تحنّ لأيام الاحتضان السعودي لها، والإغداق عليها، وتعمل على إقناع السعودية بتشكيل تحالفٍ "سني" في مواجهة إيران والشيعة، بناءً على المنظور الطائفي الذي تتبناه هذه النخب، ومعهم القيادة التركية التي تتدخل في المنطقة العربية اليوم، رافعةً شعارات الدفاع عن أهل السنة.
للسعودية إشكالاتها مع "الإخوان المسلمين"، والمسألة تتعدى الخلاف الشهير معهم في التسعينيات بشأن استدعاء قوات أميركية لتحرير الكويت من الغزو العراقي، إذ يتمحور الخلاف حول توجس السعودية من الخيار الإسلامي الذي يطرحه "الإخوان"، المتوافق مع الأميركيين، والعابر للحدود القُطْرية، بما يهدّد الدور السعودي، خصوصاً مع استفادة تركيا، أكثر من غيرها، من هذه الجماعة.
يكرّس دعم الجماعات الإسلامية عموماً في المنطقة الأزمات والحروب الأهلية، لأن هذه الجماعات تعتاش على صراعات الهوية، وهي لا تمّكن من يتحالف معها من عبور الطوائف، وإيجاد تحالفاتٍ متنوعةٍ وواسعةٍ في ساحات الصراع، وعكس ما تدّعي النخب الإسلامية، فإن استخدام هذه الجماعات يرتد سلباً على من يستخدمها، خصوصاً عندما تتصرّف بشكل يُنَفّر مجتمعاتها المحلية منها، كما تفعل الفصائل الجهادية على اختلاف أسمائها.
نخبٌ غير إسلامية، وبعضها قريبٌ من صنّاع القرار في دول الخليج، تتماثل مع النخب الإسلامية في توترها، وتنصح بما يزيد الأزمات اشتعالاً في المنطقة، فهي إذ تراجع إخفاقات السياسة الخارجية لدول الخليج في السنوات السابقة، تكتشف أن المشكلة كانت في بطء الحركة، وغياب الصرامة والتصلب في الموقف، وعدم اللجوء إلى الخيار العسكري. وعليه، تنصح بمزيدٍ من التشدد، والانخراط في الصراعات الإقليمية، سياسياً وعسكرياً، وتفعيل القوة العسكرية على الدوام لصد التوسّع الإيراني، سواءً عن طريق حلفاء محليين، أو من خلال الانخراط العسكري المباشر، كما في اليمن.
مشكلة هذه النخب أنها لا تفهم أهمية القوة الناعمة في السياسة، وأن امتلاك أدوات التأثير في الساحات المختلفة أهم من استخدام القوة العسكرية، خصوصاً عندما لا يقدّم الخيار العسكري حلاً، ويزيد الاستنزاف. تُصِرُّ هذه النخب على تحليل علاقة دول الخليج بالآخرين من الحلفاء بمنطق العطايا المالية، و"المعروف" الذي يصنعه الخليجيون لهؤلاء، وهو معروفٌ يوجب انصياع الحلفاء الكامل لمانحي الأموال. ولا تتناسى فقط أن السياسة مصالح مشتركة، وأنه لابد من المرونة في إدارة الاختلافات بين الدول والجهات السياسية، بل أيضاً أن المال وحده لا يصنع نفوذاً، وأن المشكلة ليست في توجيه هذه الأموال، وأين تُصرَف، بل في عدم وجود استراتيجية أو مشروع واضح، على أساسه تُصرَف الأموال.
نادراً ما نجد بين نخب الخليج، الناصحة صنّاع السياسة الخارجية، أي تحليل جاد لماهية الدور الذي يجب أن تلعبه هذه الدول، مع الانكفاء الأميركي. وربما لا نكاد نعثر على محاولةٍ جادة لفهم التغيير في الإقليم. وعليه، تغيّر دور دول الخليج، وعلاقتها مع أميركا، منذ نهاية الحرب الباردة، وحتى انحسار هيمنة القطب الواحد في العالم، وتغيّرت النظرة الأميركية للمنطقة. لا حديث عن طبيعة المشروع الذي يجب تبنّيه، والاستراتيجية التي تحقق أهدافاً محدّدة وواضحة، بل كلامٌ مستمر حول ردات الفعل في هذه الساحة أو تلك، والنتائج كما نرى.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".