الواقفون في طوابير الهجرة

الواقفون في طوابير الهجرة

11 ديسمبر 2016
+ الخط -
سوى البلدان العربية التي أصابتها كوارث القتل والدمار، ودفعت أهلها إلى الهجرة إلى أصقاع الدنيا بحثاً عن الأمن، فإن طموحات الهجرة ما تزال محرّكاً دافعاً لعربٍ كثيرين آخرين، غير الراضين عن الحياة في أوطانهم، سواء بسبب تدني مستوى المعيشة، أو تدني مستوى الحريات.
لا تختص طموحات الهجرة بين هؤلاء بالشباب في مطلع حياتهم وحسب، كما ظل يجري خلال القرن العشرين؛ في مرحلتي الاستعمار العسكري الأوروبي وتأسيس الدولة الوطنية وثيقة الصلة بالدولة المستعمرة السابقة، بل شملت هذه الطموحات العائلات، ورجال الأعمال، والأكاديميين، والمفكرين المعروفين في بلدانهم. هؤلاء كلهم يهاجرون اليوم من أجل حياةٍ جديدة؛ يهاجرون إلى كندا وأستراليا ونيوزيلندا، ويتركون أوطاناً لهم فيها حياة مستقرة. ولكن، غير هانئة!
ثمّة من يهاجر أيضاً سعياً إلى الحصول على جنسية وجواز سفر، سواء كان يحمل إحداها في بلده، أو كان "بدوناً"، بمن في ذلك الفلسطينيون الذين لا تعترف دولٌ كثيرة بوثائقهم. ولا ريب في أن "الحياة الجديدة" في تلك البلدان الجديدة، فيها، بظن من يهاجرون، ما هو أكثر من مستوى المعيشة، والحريات السياسية، وجواز السفر؛ فلا بد أن فيها أيضاً حياة اجتماعية أفضل: لا مجتمعٌ يفرض إرادته على الفرد، ويتدخل في آرائه واختياراته وطريقة لباسه، ولا علاقة بالدولة تُدار بالواسطة والمعارف، فتتوزّع الحقوق والواجبات ضمنها، بانتقائيةٍ بين "المواطنين"، ولا ضرورة لـ"الشطارة والفهلوة" في الشارع والسوق ومكان العمل، ما دامت الحياة اليومية تدار بالقانون، ولا معاناة نتيجة التصنيف على أساس من تعرف ولأي قبيلة أو طائفة أو جهة تنتمي.
يقولون إن من يهاجرون يحققون راحةً وسعادة وهناء، إذ يصيرون في بلدان المهجر مواطنين محترمين، لا فرق بينهم وبين أقرانهم الذين سبقوهم بالمواطنة. هناك، في مهجرهم، تحدّد العلاقة بين الناس وسلطة الدولة مدى "مواطنية" هؤلاء الناس؛ أي انتماءهم لدولتهم باعتبارها الإطار الذي يجمعهم ويوحّدهم، ويوفر لهم الحرية والأمان والاعتراف، ويرتبطون بهذا الإطار بثنائية تقديم الواجبات والحصول على الحقوق، على قاعدة المساواة والتكافؤ الشاملين بين بعضهم بعضاً، والخضوع لسلطة القانون. أما في بلدانهم العربية التي هاجروا منها، فقد ظل الناس منذ الاستقلال أقرب إلى الرعايا منهم إلى المواطنين؛ لا يُسمح لهم بالمشاركة في صنع القرار، وتوجيهه نحو ما يعتقدون أنه يحقق مصالحهم، إلا شكلياً، فضلاً عن عدم قدرتهم على اختيار ممثليهم في السلطة السياسية، لتكون الأخيرة ممثلة شرعية لإرادتهم.
هكذا إذن تتمحور مسألة الهجرة حول فكرة "المواطنة" التي تفتح المجال تالياً للرفاه الاقتصادي، والضمان الاجتماعي في مختلف المراحل العمرية. وبما أن أمر المواطنة يتحدّد في ضوء العلاقة بين الفرد وسلطة الدولة، يمكننا المقارنة بين واقعي الدول المُهاجر منها، وتلك المُهاجر إليها، لنجد أن معضلة غياب المواطنة في العالم العربي ظلت واقعةً في اتجاهين: يتعلق الأول بممارسات سلطة الدولة؛ فيما يتعلق الثاني بتواطؤ الناس مع تلك الممارسات عبر سكوتهم عنها، وسعيهم إلى الإفادة منها على حساب شركائهم في الوطن؛ بمعنى أن غياب المواطنة في العالم العربي ظل ينبع من سببين:
الأول: وجود الاستبداد السياسي، لأنه يخلق حالةً من الفساد الشامل في الدولة، فالإدارات تستغل السلطة لتحقيق مصالحها الخاصة، لا مصالح الناس على قاعدةٍ من المساواة والتكافؤ. والناس يستمرئون الفساد، لأنهم يخضعون له، ويوظفون العلاقات الشخصية والعصبية، للإفادة منه لكي يصلوا إلى غاياتهم عبر التجاوز على القانون. وهذا فساد شامل، لأن الجميع مقصّرون في أداء واجباتهم، بينما يسعون إلى تحصيل حقوقهم، فضلاً عن التجاوز عليها، وأخذ حقوق غيرهم.
الثاني: عدم تعامل الناس مع الدولة إلا من خلال وظيفتها الإدارية والتنفيذية، بدل اعتبارها الإطار الذي يجمعهم ويوحّدهم ويعبّر عن هويتهم. ومن ثم، فإنهم يلجأون إلى العائلة والعشيرة والطائفة للتعبير عن هويتهم، والبحث عمّا يمثلهم ويوحدهم، وعندها ينظرون إلى الدولة باعتبارها أداة لتحقيق مصالح بناهم الاجتماعية البدائية (القبلية والطائفية)، ما يجعل تلك البنى تتنافس فيما بينها على استغلال الدولة.
ألا يعني هذا أن ثمّة، دائماً، مجال "لحياة الجديدة" في البلدان العربية التي يهاجر أهلها، يمكن أن يتحقق عبر فرض قواعد جديدة في قيم المجتمع والدولة؟ ربما يعرف كثيرون ذلك ويستصعبونه، ويجدون أسهل منه الوقوف في طوابير الهجرة.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.