تنامي الخطاب الشعبوي والقومي في أوروبا

تنامي الخطاب الشعبوي والقومي في أوروبا

11 ديسمبر 2016

إيطاليون يحتفلون في روما بعد رفض التعديل الدستوري (4/12/2016/الأناضول)

+ الخط -
لم يتوقّع أحدٌ أن يتحوّل تحالف فيشغراد الرباعي (نسبة لقلعة فيشغراد الهنغارية) محورًا جديدًا، وفي منتهى الأهمية في المنظومة الأوروبية، وتحديدًا في إقليم البلقان في الوقت الراهن، بعد أن تحدّدت معالم المنظومة الأوروبية وأهدافها وطموحها. يضم التحالف الرباعي هنغاريا وبولندا والتشيك وسلوفاكيا، بمساحة تبلغ 533 ألف كيلومتر مربع، وبعدد من السكان نحو 64 مليون نسمة. تأسّس عام 1991 بعد انقسام تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية سابقًا، بهدف الحفاظ على مصالح الدول المعنية الخاصّة في إطار المنظومة الأوروبية، إثر اتفاقية الانضمام. وتجلّى حضور الرباعية بقوّة، بعد أزمة اللجوء التي عصفت بالقارة الأوروبية.

أوروبا الشرقية وأزمة اللجوء
قرّرت بروكسل في العام الماضي (2015) توطين 160 ألف لاجئ في الدول الأوروبية على مبدأ المحاصصة، وأخذًا بالاعتبار تعداد السكان ومستوى الحياة ومساحة الدول الأوروبية، في خطّة مقرّرة للتطبيق في السنوات القليلة المقبلة، لكنّ تحالف فيشغراد سرعان ما أعلن رفض استقبال نصيبه من اللاجئين، وحمّلت الدول الأعضاء في التحالف الرباعي ألمانيا مسؤولية تشجيع اللاجئين للاستمرار بالبحث عن الوسائل والطرق الممكنة لاستيطان أوروبا.
لا يتجاوز نصيب الرباعية 15 ألف لاجئ. وعلى الرغم من ذلك، أعربت هذه الدول عن رفضها القاطع قبول مزيد من اللاجئين، ودعت دول شرقية أخرى إلى قبول المسيحيين فقط، وبدأ بناء الحواجز التقنية داخل دول أوروبا الوسطى. بادرت هنغاريا بحملةٍ إعلاميةٍ وميدانيةٍ شرسةٍ ضدّ دخول اللاجئين، وحتّى لمجرّد المرور إلى أوروبا الغربية. اعتُبرَ رئيسُ الوزراء الهنغاري فكتور أوربان في بداية معارضته الشديدة لسياسة بروكسل مغرّدًا خارج السرب، لكنّه، في سنوات قليلة، أصبح رمزًا ومثالاً يحتذى به، تُردّدُ أقوالَه الأحزابُ القومية في أوروبا الشرقية، وتتبنّى مواقفَه الشعبويّة، توخيًا لكسب التأييد الشعبي، والبقاء في السلطة أو الفوز بها خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والسلطة المحلية "البلديات".
نظّم فكتور أوربان استفتاءً شعبيًا في هنغاريا لرفض خطّة توزيع اللاجئين التي أعدّتها بروكسل في وقتٍ سابق من العام الحالي 2016، وجاءت النتيجة مفاجئة للغاية، فقد صوّت لصالح
الاستفتاء 95% من تعداد المشاركين في الاستفتاء البالغ 40% فقط من تعداد السكان المقدّر بنحو 10 ملايين مواطن. بهذا فشل المشروع، لأّنّ قانون اعتماد نتائج الاستفتاء يتطلب مشاركة 51% من السكّان على الأقل، وطالبت المعارضة استقالة أوربان، لكنّ الأحزاب القومية الأوروبية صفّقت له، واعتبرته بطلاً مخلّصًا للقارة الأوروبية من حملة أسلمة أوروبا عبر أفواج اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط وباكستان وأفغانستان وشمال أفريقيا.
استفادت دول منظّمة فيشغراد من صناديق المساعدة الأوروبية بالطبع، خلال العقدين الأول والثاني من القرن الحالي، وتمكّن مواطنو هذه الدول من السفر بحريّة بعد المصادقة على اتفاقية الانضمام، خصوصاً تجاه دول غرب أوروبا الغنية، بهدف العمل والاستثمار، وعلى الرغم من كلّ هذه الأولويات والاستحقاقات، ترفض تحمّل الحدّ الأدنى من عبء استقبال اللاجئين الهاربين من الفقر والحروب وانعدام الأمل بمستقبلٍ أفضل على الصعيدين، الاجتماعي والاقتصادي. واستخدمت الأحزاب القومية بامتياز أزمة اللجوء في خطابها القومجي، وحشدت دعمًا شعبيًا كبيرًا، متذرّعة بحماية البلاد من المغتصبين وناقلي الأوبئة وانعدام الأخلاق والعنف، وما شابه من التهديدات التي لقيت صدىً واسعًا، أدّت إلى سقوط الحكومات المحافظة الرافضة لغة الكراهية، كما في بولندا وبلغاريا.
استُخدم مصطلح أربنة أوروبا (نسبة لرئيس الوزراء الهنغاري فكتور أوربان) على مستوى واسع. وعلى الرغم من الانتقادات العديدة التي وجّهتها منظمات حقوق الإنسان ضدّ سياسة طرد اللاجئين والتنكيل بهم وعدم احترام القوانين الدولية، ونشر العنصرية والكراهية ضدّ الأجانب، تمكّن شعار أوربان "ابقَ في البيت، ابقَ في أوروبا" في نهاية المطاف من شقّ طريقه على الصعيد الشعبي الأوروبي، على الرغم مما يحمل من معاني التفرقة وبناء جدران عديدة وحواجز قادرة على هدم وحدة الاتّحاد، وهي إحدى أهمّ الأسس التي نشأ عليه الاتحاد، وفقًا لمعاهدة ماستريخت التأسيسيّة الشهيرة.

استفتاء إيطاليا – رفض التوجّهات الأوروبية
فشل رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو رينزي، من كسب رهان الاستفتاء الشعبي الذي طالب بعقده، ورهن مصير حكومته بنتائج الاستفتاء، حيث صوّت ضدّ توجّهاته بتعديل مواد الدستور نحو 59.1% وشارك في الاستفتاء 68% من تعداد المواطنين البالغين في إيطاليا، ما أدّى إلى تقديم استقالته مساء اليوم نفسه للرئيس سيرجيو ماتاريلا. التصويت ضدّ المشروع هو كذلك تصويتٌ ضدّ سياسة الأمر الواقع التي باتت تنتهجها حكومات أوروبية عديدة، من دون الأخذ بالاعتبار المطالب الشعبية الساعية إلى تحسين الأوضاع المعيشية، وانصياع الحكومات لمتطلبات بروكسل لشدّ الأحزمة، وعدم تجاوز السقف الأعلى للعجز المالي للموازنات السنوية، بنسبةٍ لا تزيد على 3%، ما يتطلب كذلك خفض ميزان الصرف، وتقنين سياسة استيعاب مزيدٍ من الديون الخارجية. ما أدّى إلى سخط شعبي واسع في دول أوروبية عديدة، واستفادة الأحزاب المعارضة في اليسار واليمين المتطرّف الذي ركب موجة الخطاب الشعبوي والقومجي، وقدّم وعودًا غير قابلة للتنفيذ، عملت، في الوقت نفسه، على الفتّ في عضد المنظومة الأوروبية واستقرارها.
الخيارات المتوفّرة أمام الرئيس الإيطالي محدودة للغاية، أقلّها حظوظًا تقديم مرسوم تشكيل الحكومة مجدّدًا لزعيم الحزب الديمقراطي، ماتيو رينزي، للمثول أمام البرلمان للحصول على الثقة ثانية. الاحتمال الثاني قبول الاستقالة مقابل التريّث لتمرير موازنة العام المقبل في قوام
البرلمان، ثمّ تشكيل حكومة خبراء مؤقّتة، والمضيّ بعقد انتخابات برلمانية مبكّرة خلال العام المقبل 2017. على الصعيد الأوروبي، تخشى بروكسل فوز "حركة النجوم الخمسة" في إيطاليا ذات التوجّهات الشعبوية الرافضة للتكامل الأوروبي، وطرحها وعوداً كثيرة لا تتوافق مع الأوضاع الاقتصادية في إيطاليا، ومكافحة الفساد والجريمة المنظمة وما شابه، الأمر الذي سيعيد البلاد إلى مراحل متأخّرة من مسيرة نموّها. لا تهدّد نتائج الاستفتاء استقرار المنظومة، لأنّ أبعادها اقتصادية في الدرجة الأولى، والدول التي تعاني من مشكلات اقتصادية في القارة الأوروبية كثيرة، حسب تصريحات المتحدّث باسم المفوضيّة الأوروبيّة، مارغريتيس سيهيناس. أمّا مفوّض القضايا الاقتصادية بيير موسكوفيسي فعلّق إن إيطاليا دولة ذات اقتصاد كبير، وأنّ الاستفتاء الشعبي شأن داخليّ، ولا يمسّ أوروبا ومكانة إيطاليا في المنظومة.
ومع ذلك، دعا رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، الدول الأعضاء بالتوقّف عن المطالبة بعقد استفتاءاتٍ شعبيةٍ، لقدرتها على تعريض الأمن الاقتصادي للدول المعنية، وقد تتسبّب بأزمة سياسيةٍ وإداريةٍ، وتعطيل أعمال الحكومات، أخذًا بالاعتبار نتائج "بريكسيت" (التصويت بشأن العضوية في الاتحاد الأوروبي)، وما ترتّب على ذلك من تعقيدات خروج بريطانيا من المنظومة الأوروبية.
تكرّر السيناريو الإيطالي قبل ذلك في بلغاريا، حيث رهن رئيس الوزراء، بويكو بوريسوف، استمرار حكومته بنتائج انتخابات الرئاسة، وقدّم استقالته، بعد أن تبيّن خسارة حزبه الفادحة في السباق إلى مقرّ الرئاسة، وتعرّضت البلاد لأزمة سياسية وإدارية، وبالكاد صادق البرلمان على موازنة العام المقبل 2017، واستثمرت الأحزاب المعارضة على الفور هذا الفراغ لترويج أهداف حزبية ضيّقة. وقد صرح الرئيس البلغاري الجديد، الجنرال رومن رادف، أمام قنوات التلفزة الوطنية والأميركية وقناة روسيا، إنّ بلاده ستتّخذ موقفًا معتدلًا من حلف شمال الأطلسي (الناتو) والكرملين، بما يضمن مصالحها، أخذًا بالاعتبار أنّ العلم الروسي بات يرفرف فوق جزيرة القرم، واعتبار ذلك أمرًا واقعًا يصعب تغييره.
التصويت الذي شهدته إيطاليا ونتائج انتخابات الرئاسة البلغارية يعبّران عن الرفض الشعبي لما آلت إليه الأوضاع، بعد مضي سنوات طويلة على انضمامهما للمنظومة الأوروبية. وقد لا يكون للتصويت علاقة مباشرة بفحوى الاستفتاء، أو التوجّهات السياسية الخارجية للحزب الفائز بالانتخابات، بل يعتبر تحذيرًا وبطاقة حمراء رُفعت في وجه السلطة الحاكمة، وتذكيرًا بوجوب تغيير الدفّة والتعامل بجديّة مع المطالب الشعبية ورفع مستوى الحياة.
وقد تزامنت موجات اللجوء الكبيرة للأقليات المسلمة إلى معظم أنحاء القارة الأوروبية مع تنفيذ عمليات إرهابية، أدّت إلى تقديم بعض الأولويات المتحفّظة، مثل رفع موازنة الأمن واتّباع سياسة شدّ الأحزمة، وهذه سياسة باتت تتوافق مع توجّهات اليسار أيضًا في أوروبا الشرقية، الساعي إلى الفوز بالسلطة بشتّى الطرق الممكنة. وبذا، يلتقي اليمين في أوروبا الغربية مع توجّهات اليسار في شرقها، وكلاهما يندّد باللاجئين الراغبين بتغيير الوجه الحضاري والعقائدي للقارة الأوروبية، حسب رؤيتهم الاستراتيجية، على الرغم من الاختلاف في بعض التوجّهات الاقتصادية، فاليمين يطالب بعمليات إصلاحية، تتمثّل برفع أعمار التقاعد ورفع ساعات العمل، في ظلّ الأزمات الاقتصادية التي تشهدها دول عديدة في المنظومة، في مقابل توجّهات يسارية اجتماعية، تهدف إلى رفع مستوى الحياة والرواتب والتضخّم المالي، بغضّ النظر عن الإمكانات المتاحة في موازنات الدول المعنية، لكنّ اليمين واليسار، في نهاية المطاف، رفعا شعار "الغاية تبرّر الوسيلة".

النمسا ترجّح الخيار الأوروبي
على الرغم من فوز مرشّح حزب الخضر النمساوي الخبير الاقتصادي المستقلّ، ألكسندر فان دير بيلين، بفارق ضئيل لا يتجاوز 31 ألف صوت أمام المرشّح القومي، نوربرت هوفر، إلا
أنّ الليبراليين في النمسا طالبوا بعدم التسرّع للتعبير عن مشاعر الفرح والنشوة، لأنّ الحركات المتطرّفة والشعبوية تشهد انتعاشًا ودعمًا شعبيًا في الآونة الأخيرة، والأسباب مشتركة بين دول عديدة في المنظومة الأوروبية: ارتفاع معدّلات اللجوء غير الشرعية في النمسا، عدم قدرة السلطة الحاكمة على مواجهة مخاطر الوجود الأجنبي الإسلامي وتبعاته في البلاد. وحسب "دويتشه فيليه"، كان من الممكن لمرشّح اليمين المتطرّف، نوربرت هوفر، من الفوز في الانتخابات، لو أتيحت له الفرصة لحشد المؤيّدين في المدن والأقاليم المختلفة في النمسا. ولكن، حال دون ذلك امتداد مدّة الحملة الانتخابية إلى نحو 11 شهرًا، وتوقّع اليمين المتطرّف الفوز، أخذًا بالاعتبار نتائج الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة.
وقد حصل حزب الحرية النمساوي المتطرّف، في الانتخابات أخيراً، على 35% من الأصوات في انتخابات الجولة الأولى، وهي الأعلى مقارنةً مع الأحزاب الأخرى في النمسا، على الرغم من فوز مرشّح حزب الخضر. لذا، فإنّ مستشار الحزب الاشتراكي الديمقراطي، كريستيان كيرن، سيتعامل بجديّة مع الدور السياسي لحزب الحرية النمساوي، علمًا أنّ التحالف القائم ما بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الشعب النمساوي المحافظ على وشك الانهيار. وليس من المتوقّع قيام التحالف بعمليات إصلاح وتحديث للنظام الاقتصادي والاجتماعي ومكافحة البطالة في النمسا. وتُحَمّلُ فيينا عبءَ وتبعاتِ مشكلاتها الاقتصادية للقادة في بروكسل. وعلى الرغم من أنّ النمسا دولة أوروبية صغيرة، لا يتجاوز عدد سكانها ثمانية ملايين، إلا أنّها ذات ثقل وتأثير كبير وفاعل في المنظومة الأوروبية. ويتطلب الكساد الاقتصادي اتخاذ بعض الإجراءات العاجلة، كإلغاء المكافآت المالية الإضافية (راتبان إضافيان للسنة المالية)، الأمر الذي يرفضه حزب الحرية، مع إدراك الأخير عدم التمكّن من الحفاظ على هذه المكافآت، كما يدعم الحزب الحركة الانفصالية لصرب البوسنة، ما قد يهدّد أمن الإقليم برمّته. لكن هذا هو حال الوعود الشعبوية، باعتبارها أقصر الطرق وأسهلها للتوصّل إلى السلطة في دول عديدة في المنظومة الأوروبية، بل وعلى المستوى العالمي كذلك.
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح