مصر... لا تسوية والانفجار قادم

مصر... لا تسوية والانفجار قادم

09 نوفمبر 2016
+ الخط -
كتبت في مقالي "مصر تسوية تاريخية أو انفجار كبير"، في "العربي الجديد" (22 يوليو/ تموز 2015)، أن الأمور في مصر المحروسة باتت محصورة بين خيارين، أو احتمالين لا ثالث لهما، التسوية التاريخية العادلة بين كل القوى والاتجاهات السياسية من دون إقصاء أو تهميش أو انفجار أمني اقتصادي اجتماعي رهيب ومدوّ، وذكرت أن التسوية كانت آنذاك في الدقيقة التسعين، والاحتمال الثاني هو الانفجار وهو الأقوى، خصوصاً في البعد الاقتصادي الاجتماعي مع التردي الهائل للأوضاع في البلد. وبما يطاول ويشمل كل مناخات الحياة المختلفة التعليمية الصحية والمعيشية.
اعتقدت، آنذاك، أن فرص التسوية التاريخية في بعدها الداخلي كانت وما زالت ضئيلة، وحتى معدومة مع هيمنة النظام الحاكم بالكامل على المشهد، وتجفيف الينابيع السياسية والحزبية، وإقصاء القوى الحية والرئيسية، ولم يقتصر الأمر على "الإخوان المسلمين"، فباتت النخبة السياسية بمعظمها، في السجون أو المنافي، ومن بقي في البلد لا يستطيع الكلام أو حتى الكتابة، وكل من يتجرأ على المعارضة، أو الانتقاد، يتعرّض للشيطنة في التكفير السياسي، أي التخوين وحملات سياسية وإعلامية شديدة تنال، ليس فقط من حقه الأصيل في التعبير، وإنما تتعدى ذلك لتنال من خصوصياته وحرمة حياته الشخصية.
خارجياً، كان ثمة أمل معقود، العام الماضي، على تدخل سعودي ما، يدفع عربة التسوية بين السلطة والمعارضين، ويضمنها، وفق الشروط المعروفة والواقعية الصحيحة، والمتمثلة بحكومة وحدة وطنية، تضم كفاءات مستقلة، وإجراء حوار وطني لا يقصي أحداً لبلورة دستور جديد عصري توافقي جامع، يخضع لاستفتاء شعبي شفاف نزيه وحر، طبعاً، وقانون انتخابي عصري عادل ومتوازن، ومن ثم الذهاب إلى انتخاباتٍ شاملةٍ، بعد فترة انتقالية تمتد بين عام ونصف إلى عامين، وهو ما كان يفترض أن يحدث أصلاً بعد ثورة 25 يناير، ولم يقع أساساً نتيجة أخطاء "الإخوان" وقصر نظرهم، ورغبتهم في الاستحواذ على السلطة بأسرع وقت ممكن، مع تهميش قوى الثورة وصنّاعها، أو حتى بعد تظاهرات 30 يونيو/ حزيران (2013) التي حملت مطلباً عادلاً جداً وديمقراطياً جداً، بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة للخروج من حالة الانسداد السياسي السائد، وهي التظاهرات التي استغلها العسكر للانقلاب على مكتسبات "يناير"، وعلى كل القوى السياسية والهيمنة على كل مناحي الحياة بشكل غير مسبوق، بما في ذلك الاقتصاد الإعلام، وطبعاً السياسة والأمن، واستنساخ أبشع ما في أنظمة الحكم الثلاثة التي سبقت من استبداد فساد واستئثار واحتكار.
للأسف، تلاشت فرص التسوية الخارجية هي الأخرى، لأن الملف المصري لم يكن حاضراً
بقوة على أجندة الرياض، حتى مع التغيّر الجذري في موقفها، بعد تولّي الملك سلمان، وظلت التطورات الخارجية، والملف المصري بشكل عام، خارج إطار اهتمام الرياض، حتى مع تخليها عن المعركة ضد الإسلام السياسي، والإخوان، والتراجع عن اعتبارهم جماعة إرهابية، والتعاون معهم بشكل موضوعي، وحسب ما تقتضي الحاجة والمصلحة، كما الحاصل في اليمن وسورية، وبدرجة أقل فلسطين. وقد تجاهلت الزيارات السعودية المتكرّرة للقاهرة عن سبق إصرار وتعمد فكرة التدخل، أو الوساطة في الشأن الداخلي، وركّزت أكثر على بقاء النظام مستقراً إلى حد ما، بحيث لا يشكل عبئاً، وطبعاً داخل عربة القيادة الإقليمية السعودية، ولو من المقعد الخلفي. وهو ما لم يحدث على أي حال، في ظل فشل النظام وعجزه داخلياً، ومشاغبته العلنية، وحتى لعبه من تحت الطاولة في سورية، وحتى في اليمن نفسها التي تعتبرها الرياض بمثابة الحديقة الخلفية وجزءاً من أمنها القومي. وأدى الوضع الاقتصادي السعودي المتراجع، كما عدم التزام القاهرة بالقواعد التي فرضتها الرياض، إلى توتر علني في العلاقات، وبالتالي، القضاء نهائياً على أمل في وساطةٍ سعودية للمصالحة والتهدئة في مصر، علماً أن ذلك الاحتمال كان ضئيلاً أصلاً.
مع تلاشي فرص التسوية، ببعديها الداخلي والخارجي، بالتزامن مع تردّي الأوضاع المعيشية، تبدو الأمور ذاهبةً نحو انفجار أمني اقتصادي اجتماعي حتمي، لا يمكن تلافيه إلا بتشكيل جبهة سياسية وطنية عريضة، للتغيير بأقل كلفةٍ ممكنة على البلد والناس.
حتى هذا الاحتمال، يبدو للأسف غير متاح الآن، ليس فقط لعناد النظام ومكابرته، وإصراره على المضي في سياساته الكارثية، وهروبه المنهجي إلى الأمام، حتى الهاوية، وإنما أيضاً لتشتت قوى المعارضة وانقسامها، وعجزها عن التوافق على برنامج الحدّ الأدنى، ونقصد المعارضة هنا التيارين الإسلامي والليبرالي، بعدما التحق اليسار، أو معظمه، بالنظام إلى هذه الدرجة أو تلك، من دون إقفال الباب طبعاً أمام من قد يرغب منه في الانضمام إلى الجبهة الوطنية، إذا ما أبصرت النور ذات يوم.
العبء الأكبر في تأسيس الجبهة، وبلورة اصطفاف وطني عريض في مواجهة النظام، ملقى بالطبع على عاتق الإخوان المسلمين، كونهم التنظيم الأكبر والعمود الفقري للحياة السياسية والحزبية. وقد كان إقصاؤهم أصلاً خياراً انتحارياً مجنوناً، أوصل البلد، ضمن أسباب أخرى طبعاً، إلى ما وصلت إليه، غير أن "الإخوان" للأسف، وعلى الرغم من التضحيات الهائلة التي قدموها، ليسوا في وارد المراجعة والاعتراف بأخطائهم الكارثية والكبرى، وما زالوا يتصرّفون بالذهنية نفسها التي سلمت السلطة على طبقٍ من ذهب للعسكر في يوليو/ تموز 2013، الذهنية التي عجزت عن المراجعة، أو استخلاص العبر، لمنع وصول الأمور إلى ما وصلت إليه آنذاك. وعلى سبيل المثال، فإن التمسك بشرعية الرئيس محمد مرسي التي سقطت طبعاً
يمنع أي توافق بين القوى الوطنية المصرية، كما ضرورة التراجع عن فكرة الاستحواذ التام على السلطة، وتقديم ضماناتٍ توافقيةٍ، في ما يتعلق بالدستور والقانون الانتخابي، وحتى النظام السياسي ككل، حيث كانت البلاد بعد الثورة ميّالة إلى النظام البرلماني، قبل أن يتراجع "الإخوان" عن تعهدهم بعدم الترشّح للرئاسة، وهو ما كان أحد أسباب أن يعزلهم الجيش ويستفرد بهم، إضافة طبعاً إلى الإعلان الدستوري الكارثي في ديسمبر/ كانون الأول 2012، ورفض التفاهم مع المعارضة، بأطيافها المختلفة، بما في ذلك الجبهة الوطنية للتغيير وتغليب فكرة التفاهم مع العسكر، ضمن الفكرة التي أشاعها هؤلاء أصلاً عن ثنائية "الإخوان" والجيش، وهي الأخطاء التى لا يبدو "الإخوان" بصدد الاعتراف بها، ناهيك عن الاعتذار عنها، ما يشكل حاجزاً كبير أمام التوافق الوطني المطلوب، بل الملح والضروري.
الآن، وللأسف، لا بوادر في الأفق لجبهة وطنية معارضة وفق برنامج الحد الأدنى، ولا عمل جدياً باتجاهها، ويبدو النظام مصرّاً على التمسك بالسلطة، وخوض الصراع حتى النهاية، أياً كانت الكلفة. بينما الأوضاع على الأرض منهارة، والاحتقان في الشارع في ذروته، والانفجار حاصل حتماً مع انسداد آفاق التغيير، وهو ما سيحدث، بعد أسابيع أو أشهر. أما فكرة التغيير من داخل الجيش للحفاظ على مكاسبه وتهدئة الأمور، ولو مرحلياً، فلن تحلّ الأزمة المعقدة والعميقة هذه المرة، وربما تكون عاجزةً، حتى عن مواجهة الانفجار المدوّي وتداعياته الهائلة. العلاج الجذري والناجع والأقل كلفة يكمن فقط في برنامج سياسي موحّد للمرحلة الانتقالية، بروح ثورة يناير ووثيقة فيرمونت، برنامج لا يقصي أو يستثني أحداً، يتضمن تصوراتٍ توافقية واضحة للمرحلة الانتقالية، بما في ذلك النظام السياسي، وهي المرحلة التي ستطول بالتاكيد، هذه المرة، إلى ما بعد بلورة دستورعصري جامع، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية على أساسه.