في أبعاد تكريس الحشد الشعبي

في أبعاد تكريس الحشد الشعبي

28 نوفمبر 2016
+ الخط -
يواجه ما يُعرف بقانون الحشد الشعبي معارضةً قوية في العراق، من أطراف تراه "بمثابة طلقة الرحمة على المؤسسة العسكرية العراقية، ومحاولة لإنهائها بكلِّ الأحوال". ويشكّل القانون خطوة لحماية مليشيات الحشد المذكور وتحصينها، ومنْحها فرصة كبيرة، وسلطة أكبر مما لديها، قد تشجِّعها على ارتكاب انتهاكات، من دون الخضوع لسلطة القانون.
وتستند المليشيات الشيعية المعروفة باسم "الحشد الشعبي" في وجودها إلى مُعطىً عملي، هو انهيار الجيش العراقي في العام 2014، والذي نتجت عنه سيطرةُ داعش على الموصل، معقلها الأهم في العراق، وإلى مُعطى نظري، وهو فتوى آية الله السيستاني التي دعا فيها العراقيين القادرين جسدياً على الدفاع عن بلادهم. على إثر ذلك، جرى تعبئة 100 ألف مقاتل، أغلبُهم من الشيعة، ولا قيمة فعليةً كبيرة لمن ينضمّون إليه من السُّنة، أو لغيرهم من أتباع الطوائف الأخرى، أو الأديان والعرقيات من المنضوين تحته.
وقد يكون السؤال الأوَّلي والجوهري: لماذا إذا كنَّا قبلنا بمنطق (الدولة) نسعى نحو تأبيد هذه الحالة التي إن قُبِلت، جدلاً، لظرف استثنائي، ولشرط تزول بزواله، (وهو خطر داعش والإرهاب الداهم) فإن من الصعب التماس أسباب لشرعنة وجودها، محاذيةً للجيش، ومُحصَّنة عن المساءلة، وهي المُتَّهمة أصلاً، ليس فقط من المتضرِّرين منها في العراق، بل من لجان تحقيق، ومنظمات دولية، ومنها منظمة "هيومن رايتس ووتش"؟ لماذا لا تنصبّ الجهود والأموال على تقوية الجيش العراقي، بعد تطهيره، أو تجنيبه الفساد؟

الحاصل أن مجريات الواقع العراقي المتسارعة، والمتصارعة، تتقدَّم في صياغة شكله السياسي، تحت تأثيراتٍ متناقضة غير متوازنة، منذ سمحت أميركا لإيران بالدور الأكبر في بلاد الرافدين، إثر إسقاطها نظام صدام حسين، وحلِّها الجيش العراقي.
ولعل آخر تلك المجريات الفاعلة تظهر في بلدة تلعفر، حيث تتأهَّب قوات الحشد الشعبي لدخولها، وتشرئبّ أعناقُ قادته لحسمها، على الرغم من التعقيدات الطائفية التي تمثلها البلدة، ومن المخاطر المحتملة، بقوة، على التماسك الاجتماعي الهشّ في العراق، وعلى التوازن الإقليمي المأمول، إذ ترفض تركيا دخول الحشد إليها؛ لتخوُّفاتٍ على التركمان، من انتقام الحشد، ومن تمكُّن قوات حزب العمال الكردستان، العدو اللدود لأنقرة، وغير البعيد عن الدعم الإيراني، من إلحاق الأذى بهم، الأمر الذي يفاقم حدّة الصراع، ويوسٍّع رقعته.
ولأن الواقع الميداني، على علّاته، هو الأطول يداً، في (تسوية) أوضاعٍ من المفترض أن تتأسَّس على أرضياتٍ توافقيةٍ حقيقية، في أجواء من الحوار المتخفِّف من الضغوط والمساومات، فإن سنّ قانون الحشد تحت وطأة الابتزاز، أو محض طرحه، يشي بالعقلية التي تطفو حالياً على سطح العراق الذي لم يشفَ بعد من داء "داعش"، بل في عزّ المعركة معه، والاحتشاد؛ لتخليص الموصل منه، وهو (أي دخول الحشد إلى تلعفر) ما سيؤثر سلبا، وعلى نحو خطير، على نجاح العمليات العسكرية في الموصل.
نقول ذلك على وقع ما كشفه مصدر سياسي مطلع، لـ"العربي الجديد"، أوضح أنّ "قادة الحشد ساوموا رئيس الوزراء، حيدر العبادي، على دخول البلدة، وطلبوا منه تمرير قانون الحشد الشعبي في البرلمان، والضغط على مفوضية الانتخابات؛ للقبول بكتلة انتخابية للحشد الشعبي، مقابل عدم دخولهم البلدة"، وأنّ "العبادي وعدهم بذلك، وأنّه سيضمُّ صوته إلى صوت كتل التحالف الوطني تأييداً للقانون، كما سيسعى إلى دعم دخول الحشد الانتخابات" (!)
مع أن هذه المكانة التي يريدها الحشد، والتي قد تعطى له، لا تتوافق مع ما يريد "الاتحاد الوطني" من "التسوية السياسية" التي أطلقها، وأطلق عليها صفة "التاريخية"، وهي "تعني: تسوية سياسية ومجتمعية وطنية تاريخية، ترمي إلى عراقٍ متعايش، خالٍ من العنف والتبعية، وتنجز السلم الأهلي وتوفر البيئة المناسبة لبناء الدولة". وفي هذا السياق الإقليمي الذي يعمل على تظهير المليشيات المسلحة إلى جانب جيوش تتراجع مكانتُها، تظهر "سرايا التوحيد"، بزعامة وئام وهاب التي نفّذت، قبل أيام، استعراضاً، في لبنان، حضره ممثلون عن حزب الله، على وقع أغنية "نحن جيشك يا وهاب" الذي وجَّه بدوره تحية "للمقاومة والجيش السوري، والرئيس بشار الأسد، وتحيةً كبيرة للرئيس العماد ميشال عون، وأعلن وقوفه إلى جانبه (طالما يحارب الفساد والزبائنية السياسية) (!). ولم يصدر عن الرئيس عون، الذي أسس وهاب سراياه تحت سقف الدولة وعينها، أيّ استنكار، أو رفض. وهذا الاستعراض غير بعيد عن استعراض حزب الله، في سورية، بأسلحةٍ ثقيلةٍ تضاهي أسلحة الجيش، وغير بعيد عن الحوثيين، في اليمن، حيث يعلو صوتهم، فارضين أنفسهم، وأجنداتهم على اليمن بالقوة المدعومة إيرانيا، في استخفاف باليمن (الدولة) وبمؤسساتها.
وتضيء ظاهرة صعود المليشيات على حساب جيوش الدول على تحوُّلٍ مهم، حدث عقب احتلال العراق 2003، العام الذي حُلّ فيه الجيش العراقي، بقرار أميركي، ثم انعدام الفرص لبناء جيش عراقي، ذي كفاءة عالية، أو حتى في الحدِّ الأدنى الضروري. فنحن حين نشهد تنامي الاعتراف الواقعي، ضمناً، وأحياناً صراحة، كما هي الحالة مع الحشد الشعبي، مقدمة ربما لتكريس مليشيات مشابهة، لكي يكون سابقة، في لبنان واليمن، وغيرهما ربما، إنما نتوفر، على ما يرجِّح، أو على الأقل، يثير التساؤل حول اعتباطية ذلك الحدث المهم، أو ارتجاليته، (حلّ الجيش العراقي) الذي سمح بهذه التشكيلات العميقة والتحولات.
هذا، وبناء مثل هذه المليشيات بمثل هذه القوة والتفوق في حالة عراقية، وعربية مماثلة، تتسم بالهشاشة، أو بالرخاوة، والعطالة، منعكسةً على الجيوش النظامية، يعدُّ عقدة عصيّة ومعيقاً أوَّليا في وجه تشكُّل دولةٍ ذات طابع مدني، ومجتمعاتٍ تثق، أو تحسّ بمعنى الدولة. وكما كان حلُّ الجيش العراقي سامحا لتشكُّل مليشيات طائفية شيعية، فإنه دفع عراقيين إلى أحضان "داعش"، بعد أن سمح الاحتلال الأميركي، وإتاحة الدور الأكبر لإيران إقليمياً، بأرضية لجماعات
مزدوجة الطابع والمهام، مقاومة. ولكن، غير مبرَّأة من الطابع الطائفي، السُّني، العكسي.
وعلى صعيد معطى خارجي بالغ الخطورة والحيوية، وهو إسرائيل التي تمثل ركيزة مهمة في صوغ السياسات الأميركية، من دون أن يتفرّد، فإن تراجع قوة الجيوش، أو اضمحلالها عملياً، أو تهمشيها مآلا، ليحل محلها توزع مليشياوي في القوى، لا يقدر على الحسم السلطوي، فضلاً عن عجزها عن أن تكون رديفاً لبناء مدني طبيعي، أقول إن هذه الحالة، وعلى المدى البعيد، أكثر طمأنةً لإسرائيل، مع استبقاء دول إقليمية متماسكة معيَّنة، ممسكة بزمام تلك الصراعات في دائرة داخلية.
ولا يغيب عن تطورات هذا المنحى موقف الإدارة الأميركية الجديدة، إذ يَرِد السؤال: كيف لواشنطن أن تستمر في رعاية مصالحها في الإقليم، في ضوء هذا التوزُّع للقوى، بعد أن كانت تديرها بالتعاون مع دول مركزية؟
وفي الإجابة: لا ينسحب هذا المنحى على كل دول الإقليم، فثمّة دول تكتسب مزيداً من الأدوار، كما إيران التي تسيطر على تلك المليشيات، بل تسعى إلى شرعنتها، جنباً إلى جنب الدولة ومؤسساتها، وهذا الهامش الذي اتسع لإيران، في عهد إدارة باراك أوباما، قد يتعرَّض إلى تعديلات في عهد الرئيس العتيد، دونالد ترامب، (يُستبعد أن تصل إلى حدّ النكوص على الاستراتيجية الأميركية للإدارات السابقة)، ولا سيما إذا عزَّزها الأخير بشخصياتٍ متشدِّدة مع إيران، إقليميا، تتولى مناصب مؤثرة في الخارجية الأميركية.
أما روسيا، مع أنها محدودة التأثير في مجمل الإقليم، فنفوذها المتوسِّع، ولا سيما في سورية، لا يدفعها إلى التوافق التام مع طهران، ولا تسمح، بقدر ما يُتاح لها، بتمكُّن إيرانيٍّ أكبر وأعمق.