ترامب إلى تحويل مسار العولمة

ترامب إلى تحويل مسار العولمة

26 نوفمبر 2016
+ الخط -
كرّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، في فيديو أطلقه يوم 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وشرح فيه بعض سياساته التي سيطبقها في المائة يوم الأولى من توليه منصبه، كرّر ما وعد به في أثناء حملته الانتخابية بشأن بعض جوانب السياسة الاقتصادية. وتشير تصريحاته هذه إلى تحول كبير في السياسة التجارية والاقتصادية للولايات المتحدة، وقد تشكل تحولاً في مسار العولمة في حال تنفيذها، خصوصاً أن عوامل ضاغطة في الدول الكبرى تراكمت، وكانت هذه الدول هي نفسها قد هندست توسع العولمة وتسارعها، في العقود الأربعة الماضية، منذ سبعينات القرن الماضي، وفق مصالحها، رأس المال، وعلى حساب قوة عملتها.
ضمن مقولته "أميركا أولاً"، أكّد ترامب على حماية الصناعة الأميركية وتنميتها، مثل صناعات الصلب والسيارات داخل الولايات المتحدة. وفي مجال التجارة الخارجية، أكد أن الولايات المتحدة ستنسحب من معاهدة الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ، والتي تم التوصل إليها العام الماضي بين 12 دولة مطلة على المحيط الهادئ، ولم يتم التوقيع عليها بعد، ويريد استبدالها باتفاقيات تجارة تعيد للأميركيين فرص العمل وتشجع الصناعات الأميركية حسب قوله. وخلال حملته الانتخابية، كان قد شن هجومه أيضاً على اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (NAFTA).
تتعارض سياسة ترامب هذه مع سياسات تصدير الصناعات كثيفة العمالة وكثيفة الطاقة، والملوثة للبيئة، إلى بلدان العالم الثالث التي تتوفر فيها اليد العاملة بأجور منخفضة، وتكاليف أخرى منخفضة. هذه السياسة التي طبقتها الدول المتقدمة، وأدت إلى إغلاق عشرات آلاف
المصانع في الدول المتقدمة، ونقل تلك الصناعات الى بلدان العالم الثالث، وخصوصاً إلى الصين، ونقل خدماتٍ كثيرة إلى الهند، ما يعني نقل عشرات ملايين من فرص العمل إلى تلك البلدان، ما أثر سلباً على معدلات البطالة في الولايات المتحدة والدول المتقدمة، وأصبحت معدلاتها تزيد عن 10% على نحو مستقر في غالبية تلك البلدان، إذ لم تعد الصناعات عالية التقنية، وقطاعات الخدمات التي احتفظوا بها كافية لتأمين فرص عمل، على الرغم من انخفاض معدلات تزايد السكان، كما أن هذه السياسة صبّت المياه في طواحين الصين التي أصبحت ثاني اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة، وأصبحت منافساً قوياً للدور الأميركي العالمي، وتهدّد السيطرة الأميركية مستقبلاً.
إذا نفذ ترامب وعوده التجارية، فهذا يعني تغييراً جذرياً في سياسة أميركا التجارية والصناعية، وقد تكون بداية تحول عالمي ضد العولمة بشكلها الحالي، فقد تم تصميم العولمة لتحقيق أعلى ربح للشركات، وجرى هذا على حساب قوة العمل في البلدان المتقدمة، وعادة ما تعارض النقابات سياسات العولمة تلك، ولكن تم إضعاف النقابات منذ سبعينات القرن الماضي. ولا شك أن جزءًا كبيراً من العمال الأميركيين قد منحوا ترامب أصواتهم، بسبب هذه الوعود بعودة فرص العمل إلى أميركا.
يتطلب تغيير السياسات بحيث يحمي قطاعات الصناعات والخدمات الأميركية انقلاباً في سياسة التجارة الحرة للسلع والخدمات، واتفاقيات تحرير التجارة وقواعد منظمة التجارة العالمية التي قامت عليها العولمة، والعودة إلى فرض قيود على المستوردات، على شكل رسوم جمركية أو حتى تحديد كميات أو غيرها من القيود، أو ربما فرض "ضريبة فرق تكلفة" تحت شعار "التجارة العادلة"، كما يفعل الاتحاد الأوروبي اليوم بمستورداته الزراعية من العالم الثالث من أجل حماية إنتاجه الزراعي المحلي. ولكن، هل تستطيع الولايات المتحدة اتباع هذه السياسة أم سبق السيف العذل؟
لن تتوجه السياسة الجديدة الحمائية المفترضة لحماية الصناعات الخفيفة كالملبوسات، بل ستركز على حماية صناعاتٍ، مثل الصلب وصناعة الماكينات والمعدات والمنتجات الإلكترونية والخدمات عالية القيم المضافة، لكن هذه السياسة ستعني ارتفاع تكاليف منتجات الصناعات المحمية في الدول المتقدمة، والتي تستوردها الآن من الخارج بأسعارٍ منخفضة، لأنها ستعود إلى إنتاجها محلياً، بتكاليف أعلى. مثلا إنتاج الحواسيب الشخصية والهواتف النقالة بشكل كلي في الولايات المتحدة. وهذا أمر له تبعات كثيرة، منها أن جزءاً كبيراً من منتجات دول العالم الثالث، وفي الصين والهند، تعود إلى استثمارات أميركية وأوروبية ويابانية وكورية. وفي المقابل، ستلجأ بلدان، مثل الصين والهند، إلى فرض قيود على المستوردات من الدول المتقدمة، مثل فرض رسوم جمركية أو غيرها، وهي أسواق هائلة تخسرها الدول المتقدمة، كما أن هذه السياسة الجديدة المفترضة ستمنح فرصة أكبر لدول ذات قدرات تكنولوجية أصبحت متقدمة، مثل الصين، وإن كانت لا تبلغ المستوى الأميركي، ستمنحها فرصةً للنمو والتطوير في مناخ من الحماية، وحينها ستتعاضد دول البريكس فيما بينها لمواجهة السياسة الأميركية. ولكن الأهم هل سيتبع الاتحاد الأوروبي سياسات ترامب هذه؟
في مجال إنتاج الطاقة، قال ترامب إنه سيلغي القيود التي تعيق توفير فرص العمل في مجال
إنتاج الطاقة الأميركي، بما في ذلك إنتاج النفط والغاز الصخريين وإنتاج الفحم النظيف، ما سيُحدث ملايين فرص العمل والأجور الجيدة. ستؤدي سياسة ترامب هذه، في حال تنفيذها، إلى بقاء أسعار النفط منخفضة، ما سيؤدي إلى مزيد من الضغوط على الدول المنتجة والمصدرة للنفط والغاز. كما أن التقدم التكنولوجي سيساعد ترامب في تنفيذ سياساته هذه، فانخفاض الأسعار قد أخرج من دورة الإنتاج، وبسبب الخسائر، حقولاً كثيرة لإنتاج النفط والغاز من الصخور والرمال الزيتية، وقد كانت تكاليفها تتراوح بين 50 و 70 دولارا للبرميل، لكن التقدم التكنولوجي يؤدي إلى خفض تكاليف إنتاج البرميل إلى أقل من 50 دولارا، ما يعني استعادة مزاولة عديد من هذه الحقول نشاطها، وفتح حقول جديدة. كما أن التقدم التكنولوجي يساعد في معالجة معدلات التلوث المرتفعة التي يسببها إنتاج النفط والغاز الصخري والرملي، وقد وضعت الحكومات الأميركية محددات وقيوداً على تلويثها البيئة. ويبدو أن ترامب سيخفف هذه القيود البيئية، ما يتيح زيادة إنتاج أميركا من النفط والغاز الرملي والصخري، ويوجد فرص عمل أكثر، على الرغم من أن هذا سيزيد التلوث البيئي، لكن هذا سلوك تقليدي لقطاع الأعمال الأميركي الذي لا يرحب باتفاقيات خفض التلوث التي يتحمس لها الأوروبيون. سياسة ترامب هذه تعني أن انخفاض أسعار النفط سيستمر، وهذا يعني الكثير للدول المصدرة للنفط، والتي تعتمد في مواردها على قطاع النفط والغاز وصادراته بشكل رئيس، مثل دول مجلس التعاون، وسيجعل أحلامها بارتفاع الأسعار في عام 2017 وما بعده سراباً.

دلالات