صوت الأذان ومعركة الرمز

صوت الأذان ومعركة الرمز

25 نوفمبر 2016
+ الخط -
يتّخذ الكيان الصهيوني، بعد كل فترة، قرارات تحاول، بشكل أو بآخر، أن تهدم كل معنى يتعلق بذاكرة المكان، وتهدم كل الرموز التي تشكل جزءاً من ثقافة الأمة وهويتها، والتي تتمثل في رمزية الأذان. إنها معارك العدو التي يخوضها بلا هوادة، معركة الذاكرة حين يطمسها، ومعركة المعاني حين يزيّفها، ومعركة الرموز حين يحاول محاصرتها وتطويقها، إنه الحصار يقوم به الكيان الصهيوني لكل صوتٍ مسموع، يؤشر على الحضور والوجود. من المهم، في هذا المقام، أن نتحدّث عن قدرات الرموز وعالمها في تشكيل وعي الناس، وفي محاولات العدوّ لطمس كل ما يعلن عن الوجود والحضور الفاعل الذي لا يمكنه، بأي حال، أن يكبته أو ينقضه.
يشن الكيان الصهيوني، المرة تلو المرة، حروباً معنوية يقصد منها هزيمة النفوس، والشعب الفلسطيني، حينما يعبر عن كيانه ومقامه ومقاومته، يحاول، في كل مرة، أن يصعّد من مشاهد الطغيان، وأن يهزم حالة المقاومة والتعبير عن الوجود في كل آن، وعلى امتداد المكان. ومن ثم، فإنه يتحرك، ليس فقط لمواجهة الإنسان على الأرض، لكنه يتحرك لمواجهة البنيان الذي يتمثل في المآذن، والتي جعلها من أهدافه، في الحروب على غزة العزة، ويجعل من المساجد هدفاً استراتيجياً، وكأنها تقوم بتصنيع السلاح لمواجهة العدو. وغاية الأمر أن الكيان الصهيوني، وهو يتدبر أمره في هذا المقام، يعلم أن السلاح الذي يتعلق ببناء الوعي المعنوي والالتزام النضالي، فيحاول أن يكبت أي صوت، فما بالك لو كان هذا الصوت صوت أذان، وفي بيت المقدس؟ وهو إذ يستهدف ذلك يحاول أن يصدّر رسالةً أنه "يكبت الأصوات، ويهدم الرمز، ويجعل المآذن بلا أذان". ومن هنا، كانت الانتفاضات التي تتعلق بفلسطين وأهلها حركة إعلان للدفاع عن الكيان واستمرار حال المقاومة لكل عدوان.
أقول بحق إننا أمام انتفاضةٍ حقيقيةٍ واسعة، يمكن تسميتها "انتفاضة المآذن والأذان" التي
انتشرت في كل مكان في فلسطين، لتعبر عن حالة من التحدي النضالي، تؤكد على معركة مهمةٍ تلك التي تكمل مثلث المعارك الأساسية من معارك الذاكرة، ومعارك المعنى والمفاهيم، لتكون معركة الرموز من أهم معارك هذه الأمة التي تتعلق بفعل الإرادة والمقاومة. نقول، في هذا المقام، إن معركة الرمز ليست شيئاً هيناً، ولكنها تشكل حالة انتفاضيةً، تعبّر عن مقاومة ممتدة ومستمرة، تؤكد أن الأذان يمكن أن ينطلق في كل مكان؛ ينطلق في كنيسة في الناصرة، بل ينطلق تحت سقف الكنيست الإسرائيلي، ويردد أعضاء عرب فيه الأذان حالة رمزية لمقاومة صلفٍ إسرائيلي، ومحاولته لكبت الصوت ومنع الأذان. هذه الطاقة الرمزية التي نشاهدها في مظاهر عدة إنما تشكل استكمالاً لألوانٍ من الانتفاضات، يعلّم بها الشعب الفلسطيني العالم، ويتفتق الذهن النضالي عن أشكالٍ من المقاومة لا تخطر على بال، حتى إن ذلك الكيان الصهيوني يرى تلك المشاهد التي تطرق وتتحدّى كل ألوان صلفه، وكل صنوف طغيانه، لتؤكد أن البقاء الذي يتعلق برموز المكان والإنسان تنطلق بأعلى صوت للأذان.
ما بال الكنائس المسيحية تردد الأذان، فيما هو شعيرة دينية إسلامية، إلا أن ذلك يمثل حالة مقاومة مجتمعية، تؤكد المعنى وتتخطى المبنى، وتصدع بالصوت ليجلجل في تحدّ "أنا المقاومة، مقاومة العدوان، مقاومة الكبت والطمس وكل ألوان الطغيان". إنها معركة الرمز تنطلق من أماكن غير معهودة. يسمعونهم الأذان في عقر مؤسساتهم، في الكنيست الإسرائيلي، ما يؤكد، في تحدٍ، أن أحداً لا يستطيع أن يمنع رمزاً، أو يقتل معنى، إنه درس المقاومة، حينما يعلّم الفلسطينيون الدنيا هذه المعاني، ويتقدم الصفوف المسيحي قبل المسلم، والعلماني قبل المتديّن، ليشكل حالة مقاومة للدفاع عن الوجدان والحضور والكيان.
ذلك كله إنما يستحضر ذاكرة الانتفاضات والتحدّي في اختراعاتٍ غير مسبوقة، في ظل عمليات مقاومة لهذا الكيان الصهيوني المصطنع، وذلك العدوان المستمر والطغيان المهيمن. كان اختراع الحجر في انتفاضة الأقصى يعبر عن طفلٍ يستعمل الحجر، ليحمي الأمة، ويحمل لواء المقاومة في مواجهة جيش إسرائيلي مدجج بالسلاح، ويستعرض، بكل أنواع العتاد. إنه الحجر والطفل يمثلان الإرادة، ويمثلان حالة المقاومة لهذا العدوان على أرض فلسطين، وهذه انتفاضات أخرى، حينما يحاول العدو من خلال قبته السماوية الحامية، أو جداره العازل المرتفع، فتتخطى المقاومة ذلك الجدار وتلك القبة بأسلحةٍ بسيطةٍ، لتعلن الرفض والتحدي لكل مشاهد العدوان وكل مظاهر الطغيان.
أرأيت انتفاضة السكين؟ تعبر عن رفضٍ لصلف هذا الكيان، ويؤكد الفلسطيني، من خلالها، أن لديه من السلاح البسيط الذي يواجه به ترسانات الأسلحة الإسرائيلية، النووي منها وغير النووي. إنها معركة الرمز، حينما تؤكد المقاومة أنها عمل ممتد لمواجهة كيان صهيوني يتغوّل على الحق الفلسطيني، بكل صنوف الاستيطان والعدوان، غير عابئ بقيمة الفلسطيني الإنسان. تتحرك معركة الرمز، لتصدع بكلمات عاليةٍ، هذه المرة، تتمثل في الأذان في داخل الكنيست الإسرائيلي.
لم تمر ساعات على رفع النائب العربي، أحمد الطيبي، الأذان داخل الكنيست، حتى بادر نائب عربي آخر إلى رفع الأذان للمرة الثانية، في جلسة لمناقشة حظر رفع الأذان في المساجد في القدس. وتعمّد النائب طالب أبو عرار رفع الأذان، بدلًا من إلقاء كلمةٍ من على منصة الكنيست؛ ما أدى إلى احتجاج نواب الاحتلال عليه ومحاولة منعه من استكمال الأذان.
وكانت اللجنة الوزارية العليا في حكومة الاحتلال قد صادقت على مشروع قانونٍ يحظر فيه
رفع الأذان في المساجد في القدس، وأيده رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. ويفرض مشروع القانون قيودًا على استخدام مكبرات الصوت في رفع الأذان، ويشترط أن يحصل المشروع على مصادقة الكنيست بثلاثة قراءات، قبل أن يكتسب قوة القانون. وحظي مشروع القانون بدعم أعضاء الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الذي يهيمن على الكنيست؛ بما يجعل فرص تمريره شبه مؤكدة، إلا أن القائمة العربية المشتركة، التي تضم 13 نائبًا في الكنيست، المكون من 120 عضوًا، ترفض مشروع القرار بشدة.
كان الأذان المعنى والرمز، حينما يوجع الكيان الصهيوني وعدوانه بعبارات الأذان تنطلق الكنائس المسيحية قبل المساجد، تحمل أذان المسلمين، فتتحدّى قوانين إسرائيلية ظالمة، وتمارس النضال، وتعلّم الدنيا كيف يكون الكفاح، انتفاضات مبدعة وأعمال نضالية ساطعة، تحقق الأثر والفاعلية، وترفع الرمز أن الشعب الفلسطيني واحدٌ في مطالباته، وفي الذود عن كيانه ووجوده وحاضره، حتى لو اختلفت الأديان، فتحول الصوت إلى صوت أذان، لم يكن يتصور أحد أن تطلق من هذا المكان، أو من "كنيست البرلمان" لذلك الكيان.
هذه الرسالة وجهها هؤلاء إلى كل الدنيا، لهؤلاء الذين تواطأوا على الحق الفلسطيني. أقول إن انتفاضة الأذان الفلسطيني ترفع الأذان في كل مكان لمواجهة الطغيان والعدوان، وهي رسالة لمتصهينة العرب الذين يفرّطون في حقوق الأمة، فتعلّمهم الكنائس مع المساجد درس المقاومة، ويعلمهم النواب العرب داخل الكنيست الإسرائيلي كيف يرفعون صوت الأذان رمز المقاومة لكل طغيان.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".