الإبداع والإرهاب

الإبداع والإرهاب

25 نوفمبر 2016

غسان كنفاني ومصطفى خليفة ومهدي عامل وغسان جباعي

+ الخط -
يقول نيتشه: "لنا الإبداع أو الفن، لكي لا تميتنا الحقيقة". ويقول وزير الدعاية النازية غوبلز: "كلما سمعت كلمة إبداع، أو ثقافة، تحسّست مسدسي".
الإبداع حالة فطرية وجدت مع الإنسان منذ وجد، والتي تمثلت في رسومه البدائية على جدران الكهوف، في أول الأصوات والموسيقى التي اكتشفها، في اكتشافه اللغة، ومن ثم في أول الملاحم الشعرية والفلسفية العميقة التي تركها الإبداع، فعلاً أو تلقياً، هو الدهشة التي يسببها إحداث الجديد، وهي ما تمثل للإنسان دائماً حالة فرح ونشوة. لذا، فالإنسان بفطرته يسعى إليه، وينجذب لحضوره الطاغي، هو هذا السحر القادر على الدخول إلى كل القلوب، من دون جوازات سفر، وبالتالي، يمتلك قدرة سحرية في إمكانيته على التأثير وعلى صناعة التغيير.
من طبيعة المنتج الإبداعي أنه ذو رؤى متعدّدة وأصوات مختلفة، كل منها يخالف يسائل الآخر ويحاوره. من هذا التباين، سينشأ نوع من الحوار الداخلي في عقل المتلقي، يوازيه حوار خارجي بينه وبين بقية المتلقين. ثقافة الإبداع هي تفكير إيجابي مبدع ومتجدّد، يدعو إلى التطوير، قادر على التحدّي ومواجهة الضعف والفساد. أما ثقافة الإرهاب فهي تفكير سلبي مغلق، يدعو إلى العنف والقتل ونشر الخوف، ويقوم على عنصر السمع والطاعة والإنكار. لم يكن قول وزير الدعاية النازية عبثياً أو بسيطاً، فالإبداع وليد الشك والتمرد، والخلق وليد الحقيقة وعدو الفكرالمطلق وتسلط الرأي الواحد. وبالتالي، هو عدو لأي انقياد أعمى، ولأي استبداد سينشأ عن هذا التسلط، ذلك أن الإبداع الحقيقي لم يكن يوماً، بكل أشكاله ومراحله ومحطات تطوره، سوى التعبير الأرقى عن الإنسان والحياة، والذي لا يمكن أن يوجد من دون حرية حقيقية، غير مجزأة، كما أنه، بحد ذاته، يعيد إنتاج حرية الإنسان نفسها، من خلال ما يطرحه من أسئلة دائمة، ومن تمرد على السائد، وعلى كل حالات الظلم الإنساني وعلى كل السلطات التي تقمع حريته، بكل أنواعها، السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية. فالإبداع والحرية كالشجرة والأوكسجين تماماً، إذ لا يمكن للشجرة أن تنمو من دون الأوكسجين، لكنها حين يكون موجوداً وتأخذه تصبح هي بحد ذاتها المنتج الأول لهذا الأوكسجين، والتي بدونها تفنى الحياة، كل الحياة، على هذه الأرض.
ثقافة الإبداع، بحد ذاتها، هي ثقافة فن تذوق الحياة، وهي معاكسة تماماً لثقافة الإرهاب الفكري، الذي هو عدو الثقافة التي تشرع وتقبل فعل الموت، بل وقد تستمتع به.
لهذا كله، ولما تحمله ثقافة الإبداع في داخلها من خلخلة وزعزعة للمطلق بكل أشكاله، وهزّ لعروش دكتاتوريات القمع بكل أشكالها، كانت هذه الثقافة دائماً العدو الحقيقي لكل أشكال السلطات المبنية على قاعدة الإرهاب الفكري، طبعاً بكل أشكاله، إذ تلتقي مصالح التنظيمات السياسية والدينية على أرضية واحدة، على الرغم من وجود كل منهما على طرفٍ نقيض للآخر، وذلك في إتباع النهج الفكري والأسلوب نفسه عندما يتعلق الأمر بالإرهاب الفكري، والفروق بين الجهتين شكلية، إذ أنهما يلتقيان في أسلوب ممارسة التهميش والطغيان، مهما اختلفا عقائدياً وفكرياً. أحدهما هو ابن للآخر، وهو في الوقت نفسه أب له، لأن العجز والشعور بالظلم والقهر والتعذيب الذي يتولد من الإرهاب السياسي، يؤدي إلى نمو فكر الإرهاب، كما أن السلطة الإرهابية الدينية تتحول إلى سلطة إرهابية سياسية بالمطلق.
لهذا كله، كانت السلطات تخاف من المبدع الحقيقي الذي يواجهها أكثر بكثير مما تخاف ممن يحمل السلاح ضدها، لمعرفتها تماماً كيف يستطيع الإبداع أن يهدّد وجودها. وكان هذا الخوف السبب الحقيقي وراء تصفية مبدعين كثيرين أو اعتقالهم فترات طويلة أو نفيهم، ومنهم ابن رشد ولوركا. وهناك فرج فودة، مهدي عامل، ناجي العلي، غسان كنفاني والعالم جمال الطحان. واعتقل النظام السوري إبراهيم صموئيل، غسان الجباعي، أكثم نعيسة، مصطفى خليفة وغيرهم، أكثر من عشرة أعوام، وفي غضون الثورة إياد شاهين، رشيد الرويلي، تامر العوام. وأعدم "داعش" الشاعر بشير العاني. وهناك كثيرون ذهبوا وسيذهبون بلا أسماء.
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
ميسون شقير

كاتبة وإعلامية سورية

ميسون شقير