ترامب ومستقبل النظم العربية

ترامب ومستقبل النظم العربية

24 نوفمبر 2016
+ الخط -
أخيراً، انتهى سباق الرئاسة الأميركية، كما ينتهى أي فيلم حركة أميركي، مليء بالإثارة والتشويق، ثم تأتي النهاية مفاجئة للمشاهد. وقد لعبت الآلة الإعلامية الهائلة دوراً بارزاً في اللعبة، عندما قدّمت المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، باعتبارها الأوفر حظاً في السباق، حتى اللحظات الأخيرة من الفيلم/ السباق الانتخابي، وانتهى الأمر بفوز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، ليصبح الرئيس الأميركي المنتخب الخامس والأربعين، وتدل المؤشرات على أنه سيكون على رأس إدارة جمهوريةٍ يغلب عليها تيار اليمين المتشدّد، والمحافظين الجدد، يسانده كونغرس يتمتع بالأغلبية الجمهورية في مجلسيه، النواب والشيوخ؟ إدارة منوط بها تنفيذ التوجهات الاستراتيجية الأميركية، اعتباراً من تسلم السلطة في 20 يناير/ كانون الثاني 2017، أربع سنوات تالية، قد تمتد أربعاً أخرى.
وللتعرف على طبيعة الإدارة الأميركية القادمة، ويمثل ترامب العنوان الرئيسي لها، نستعرض فقط بعض المرشحين أركاناً رئيسية للإدارة. تبدأ الأسماء بالجنرال مايكل فلين، المرشح مستشاراً للأمن القومي، وهو منصبٌ لا يحتاج إلى موافقة الكونغرس، شغل منصب رئيس وكالة مخابرات الدفاع، وهو معروف بعدائه السافر للإسلام، وقد قال مرة "الإسلام ليس ديناً، وإنما مجموعة من الأفكار التآمرية". وهناك الجمهوري مايك بامبيو، المرشح رئيساً لوكالة المخابرات المركزية. يمثل أقصى اليمين المتطرّف، وعضو مجلس الشيوخ. وزميله جيف شينسنز مرشح لوزارة العدل، ثم يأتي ترشيح الجنرال جيمس ماتيوس لوزارة الدفاع، وهو العسكري المخضرم. وفي تاريخه العسكري خوض معارك الشرق الأوسط والعالم العربي، من حرب تحرير الكويت 1991 إلى غزو أفغانستان، وغزو العراق، وقيادة قوات البحرية الأميركية (المارينز) في الفلوجة، وتولى القيادة المركزية. وقد تقاعد من الخدمة العسكرية قبل ثلاث سنوات، وهو ما يسمح له بشغل منصب وزير الدفاع. ويأتى المرشحون لوزارة الخارجية من الصندوق نفسه، صندوق اليمين المتطرّف، والمحافظين الجدد، وفي مقدمة المرشحين ميت رومني، ونيوت غينغريتش، ورودي جولياني.. يضاف إلى هؤلاء نائب الرئيس مايك بينس، المعروف بمواقفه العنصرية المتطرفة، أي أن الإدارة المرتقبة يمينية متطرفة، تعتمد القوة بمفهومها الصلب، والمباشر، وسيلةً لفرض إرادتها.
هذا عن ترامب وإدارته، فماذا عن النظم العربية ومستقبلها في ظل الأوضاع السائدة في عالمنا العربي المتصدع، خصوصاً التي سارعت بالتعبير عن ابتهاجها، وترحيبها غير المبرر بوصول
ترامب إلى البيت الأبيض؟ ولعل دافعه الوحيد تصور خاطئ بأن ترامب وإدارته سيكونان سنداً قوياً لها في الحفاظ على كراسي الحكم والسلطة، باعتبارها شريكاً في الحرب على الإرهاب المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والحركات الإسلامية المتشدّدة، وأفرعها في المنطقة، والتي يعتبرها ترامب مصدر التهديد الرئيسي القادم من العالمين، العربي والإسلامي.
قد تبدو هذه التقديرات صحيحةً للوهلة الأولى. ولأن الاستراتيجية الأميركية ليست بهذه البساطة، والمباشرة، علينا العودة قليلا إلى الوراء، فمنذ انهيار جدار برلين في نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، وبوادر تفكك الاتحاد السوفييتي وسقوطه في بداية التسعينيات، وهو ما حدث في ديسمبر/ كانون الأول 1991، بات واضحاً أن العالم بدأ حقبة الهيمنة الأميركية، وتزامن ذلك مع وصول جورج بوش الأب إلى البيت الأبيض على رأس إدارة جمهورية يمينية في يناير/ كانون الثاني 1989، والتي اصطدمت، في العام التالي، مباشرة، بحدث إقليمى مروع، وهو غزو رئيس العراق صدام حسين الكويت في أغسطس/ آب 1990، وإعلانها محافظة عراقية، في تحدٍّ سافر للنظام العالمي الجديد الذي تسعى أميركا إلى إقامته. وجاء الرد الأميركي عنيفاً وحاسماً، بعملية عسكرية منسقة وشاملة، حملت اسم عاصفة الصحراء لطرد قوات صدام حسين، وتحرير الكويت. وشهد العالم استعراضاً مبهراً للآلة العسكرية الأميركية، ولكن الأكثر أهمية أن أميركا تنبهت إلى منطقة الشرق الأوسط، وخطورة النظم الشمولية القائمة فيها، والتي ترفع شعارات قومية، وتمارس الحكم عبر وسائل قمعية، على شاكلة نظام صدّام.
انتهى حكم الجمهوريين، وغادر جورج بوش الأب البيت الأبيض في 1993، ليحتله بيل كلينتون وإدارته الديموقراطية التي ركّزت على الشأن الداخلي، مع بعض الاهتمام بقضايا الشرق الأوسط، كان في مقدمتها القضية الفلسطينية، وانتهت مساعيه باتفاق إعلان المبادئ بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية (اتفاق أوسلو) في 1993، مع استمرار الضغط على نظام صدام حسين في العراق بوسائل العقوبات. ولعل أهم ما قام به هو عملية "ثعلب الصحراء" في ديسمبر/ كانون الثاني 1998، استهدف فيها، على مدى 96 ساعة من القصف الصاروخي، كل مقومات البنية العسكرية التحتية للعراق. ولكن، من دون تدخل عسكري مباشر، بينما لم تُمارس إدارة كلينتون ضغوطاً ملموسة على أي من نظم الحكم في المنطقة. ولا بد من الإشارة هنا إلى الفارق الرئيسي بين أسلوب كل من الإدارتين، الجمهورية والديموقراطية، في التعامل مع نظام صدام. شن الرئيس بوش عملية عسكرية شاملة ( عاصفة الصحراء)، بينما قام كلينتون بعملية قصف جوي وصاروخي (ثعلب الصحراء)، وشتان بين حسم العاصفة وخبث الثعلب.
في يناير/كانون الثاني 2001، ومع بداية الألفية الثالثة، عاد الجمهوريون إلى البيت الأبيض مع رئاسة جورج دبليو بوش الابن، ومعه إدارة يمينية متطرفة، يتصدرها المحافظون الجدد،
يحملون التوجهات الاستراتيجية الأميركية للقرن الواحد والعشرين، ليكون قرناً أميركياً بحق، تقود فيه العالم بقوة الثورة في الشؤون العسكرية التي كان عرّافها وزير الدفاع رامسفيلد. وبلورت أميركا العدو في أعقاب عملية "11سبتمبر" في "الإرهاب" ذي الطابع الإسلامي، وهو ما يستلزم من وجهة نظرها أمرين. الأول شن حربٍ مباشرة لضرب قواعد الإرهاب ومنابعه. والثاني تجفيف منابع ذلك الإرهاب عبر عدة وسائل، أهمها إعادة هيكلة الشرق الأوسط ونظم الحكم فيه، باعتبار تلك النظم السلطوية، والقمعية، تفرز الأفكار شديدة التطرف التي تؤدي إلى نشأة الجماعات والحركات الإرهابية. ومن هذا المنطلق، ظهرت دعاوى الشرق الأوسط الكبير، والأوسع، والجديد، ودعاوى الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وبدأت إدارة بوش الابن بالفعل في تطبيق نظريتها بغزو أفغانستان، وإسقاط حكومة طالبان، ومطاردة تنظيم القاعدة، ثم اتجهت مباشرةً إلى قلب العالم العربي في العام 2003، حيث قامت بغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين بكل أنساقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان التصوّر أن العراق سيكون نموذجاً ديمقراطياً، يُحتذى به في المنطقة. ولكن، جاءت النتائج كارثية تماماً، حيث حلت الفوضى وليس الديموقراطية، بديلا للنظام القمعي الذي تم إسقاطه. وبدلاً من انتشار الديموقراطية في ربوع المنطقة، انتشرت حالة من الفوضى العارمة، خصوصاً مع مجيء باراك أوباما وإدارته الديموقراطية إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2009، وسياسات القفاز الحريري، والقوة الناعمة.
ويمكن القول إنه، خلال ثماني سنوات من إدارة أوباما، أفلت زمام المنطقة تماماً من أيدى الإدارة الأميركية، وعادت النظم الشمولية والسلطوية بقبضة أشد قوة وقمعية، بدعوى محاربة الإرهاب الذي يضرب المنطقة، والحفاظ على الاستقرار، وازداد الأمر خطورةً، بعد إحباط موجة ثورات الربيع العربي، وعمت حالة الاحتراب العنيف قلب العالم العربي، في العراق وسورية واليمن، مع تدخلات إقليمية غير عربية من إيران وتركيا، وتدخلات دولية من روسيا وأميركا وحلفائها، بالإضافة إلى احترابٍ على مستوى أقل فى شمال سيناء في مصر، وفي ليبيا التى تتنازعها ثلاث قوى في الشرق والغرب والجنوب.
والسؤال: هل ستبتلع إدارة ترامب الطعم، وتقف إلى جانب تلك النظم التى رحبت بها؟ أم أن تلك الإدارة تحمل رؤية، وتوجهات، وقناعة راسخة، بأنها جاءت لاستعادة الهيبة، والقيادة الكونية، وعليها أن تستكمل تحقيق الأهداف التي فشلت إدارة أوباما في تحقيقها، وفي مقدمتها إعادة هيكلة المنطقة لإيجاد الشرق الأوسط الجديد، شرق أوسط منزوع الجيوش القومية، وهي الأداة الرئيسية للحكم بالنسبة للنظم السائدة. شرق أوسط لا تحكمه أيديولوجيات دينية، أو قومية، أو سياسية، تعتبرها أميركا المنتج الرئيسي للإرهاب. شرق أوسط ركائزه قوى إقليمية غير عربية، تركيا وإيران وإسرائيل، وهي رؤية لا تصب في صالح مستقبل النظم العربية.
هل تفيق تلك النظم العربية قبل أن يداهمها ترامب وإدارته، بسياساته التي ستكون مفاجأة غير سارة، وأشد وقعاً عليها، من مفاجأة فوزه، وترجع إلى شعوبها بشجاعة، لترد لها إرادتها الحرة، وتحفظ بذلك ماء وجهها، قبل السقوط الذي يبدو أنه بات حتمياً، وساعتها سيجد ترامب نفسه، ليس في مواجهة نظم حكم شمولية، تفتقر إلى التأييد الشعبي الحقيقي، وتسعى إلى كسب تأييده، وتقبل صاغرة بما يمليه عليها، ولكنه سيجد نفسه في مواجهة شعوبٍ حرةٍ تمتلك إرادتها، وعليه احترامها.
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.