لماذا يجب أن تخشى أوروبا ترامب؟

لماذا يجب أن تخشى أوروبا ترامب؟

22 نوفمبر 2016
+ الخط -
تفاوتت ردود الأفعال الدولية على فوز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، في انتخابات الرئاسة الأميركية، ما بين الترحيب (جاء من معسكر الرئيس الروسي الرفيق فلاديمير بوتين خصوصاً)، وشعور بالذهول والصدمة عبّر عنه الأوربيون الذين حل هول المفاجأة عقدة ألسنتهم. لم تستطع ألمانيا تحديداً إخفاء استيائها، في خروجٍ غير مألوف عن البروتوكول، إذ عبّرت وزيرة دفاعها، أورسولا فون در لاين، عن الصدمة حيال فوز ترامب، فيما رأى زميلها وزير العدل، هايكو ماس، أن العالم سيزداد جنوناً بعد انتخابه. عبّر مسؤولون فرنسيون، خصوصاً من الحزب الاشتراكي الحاكم، عن مشاعر مماثلة، وإنْ بلهجةٍ أخف، في حين اعتبر الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، أندرس فوغ راسموسن، أن ترامب يمثل "خطراً حقيقياً على الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي". وعلى الأثر، تداعى وزراء الخارجية الأوروبيون إلى ما يشبه اجتماع أزمة في بروكسل لمناقشة "الكارثة". فلماذا كل هذا الاستنفار الأوروبي؟ وهل هناك ما يبرّر حالة الهلع من فوز ترامب؟ واقع الأمر أن هناك أسباباً جدية تدعو الأوروبيين الى القلق من وصول ثري العقارات الأميركي إلى البيت الأبيض، ذلك أن تحويل ترامب شعاراته ووعوده الانتخابية إلى سياساتٍ سوف يعني عملياً وحرفياً (Literary) تقويض نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية في القارة الأوروبية، انهيار منظومة الأمن الجماعي، ونهاية عهد السلام والاستقرار والرخاء الذي تمتعت به أوروبا حتى الآن.
وعد الرئيس المنتخب جمهوره من الطبقة العاملة البيضاء التي أوصلته إلى الحكم بإلغاء، تجميد، أو وقف العمل باتفاقات التجارة الحرة التي وقعتها بلاده مع دول عديدة، وإعادة فرض رسوم على البضائع المصنعة لحماية الصناعات المحلية، وإعادة إحياء ما دمرته سياسات التجارة الحرة منها. دول كثيرة سوف تتأثر بهذه السياسات الحمائية، إذا تم العمل بها، وإذا استثنينا الصين، سوف تكون ألمانيا (ثالث أكبر مصدّر للبضائع المصنعة في العالم) الأشد تأثراً، فالاقتصاد الألماني يعتمد اعتماداً كبيراً على التجارة الخارجية، إذ يبلغ إجمالي حجم الصادرات الألمانية أكثر من 1.5 تريليون دولار سنوياً (ما يعادل 46% من ناتجها
القومي)، وفي حال التضييق عليها، سوف يتأثر اقتصاد ألمانيا بشدة، ما يعني إغلاق المصانع، وارتفاعاً في نسب البطالة، وتدهوراً في معدلات النمو ومستوى المعيشة. سوف يتم ربط هذه التداعيات بقضايا الهجرة واللجوء التي تعد حالياً مادة ساخنة للنقاش في ألمانيا وعموم أوروبا، ما يعني إنعاش حظوظ الأحزاب اليمينية (بعضها ذو ميول فاشية) التي تتوثب للوصول إلى السلطة.
يعيد هذا الأمر إلى الذاكرة ما عرف بالثلاثاء الأسود (29 أكتوبر/ تشرين الأول 1929) عندما انهارت أسواق الأسهم والسندات في "وول ستريت"، ما أسفر عن أزمةٍ مالية واقتصادية، فرضت، على أثرها، الولايات المتحدة سياسات حمائية خاصة على وارداتها من الفولاذ والصلب، عصب الصناعة الألمانية، ما أدى إلى تدميرها وتقويض أسس الاقتصاد الألماني الذي كان ينوء تحت عبء تعويضات الحرب العالمية الأولى، ما أدى إلى صعود النازية ووصول هتلر إلى الحكم في انتخابات 1933.
تقويض الاقتصاد الألماني، وصعود اليمين، سيؤديان حتماً إلى تفكّك الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يدعمه ترامب أصلاً، وإذا عرفنا أن الاتحاد الأوروبي نشأ أصلاً لاستيعاب طموحات ألمانيا وامتصاص فائض القوة الألمانية، فإن إغلاق الأسواق أمامها، وسد المنافذ عليها، سوف يجعلان هذه القوة تنفجر في وجه الأوروبيين، وفي مقدمتهم الفرنسيون الذين خبروا الجموح الألماني في ثلاث حروب كبرى خلال أقل من قرن (1870، 1914، 1945). وهذا يعني، إذا ظل ترامب يشجع عليه، نهاية عهد الاستقرار الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، وعودة الصراعات التي ظن الأوروبيون أنهم طووا صفحتها، وهذا بالضبط ما قصده المسؤولون الأوروبيون في معرض تعليقهم على فوز ترامب.
الأمر الآخر الذي يثير الرعب في نفوس الأوروبيين هو موقف ترامب من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إذ صرح الرجل، في الحملة الانتخابية، إن الحلف لم يعد يلبي الأغراض التي أنشئ من أجلها، وأنه يكلف الولايات المتحدة كثيراً من المال، وهو من ثم قد ينظر في أمر الانسحاب منه، ما سيقود طبعاً إلى انهياره. شكل "الناتو" بالنسبة للأوروبيين حلاً جوهرياً للمعضلة الأمنية التي رسمت تاريخ قارتهم بالدم منذ اتفاقية وستفاليا عام 1648، حيث تسبّب سعي الدول الأوروبية الكبرى إلى تحقيق أمنها بصورة فردية بحروب كارثية، كان منها الحربان العالميتان، إلى أن جاء تأسيس "الناتو" في عام 1949 ليكون بمثابة مظلة أمنٍ جماعيٍّ، حلت للأوروبيين معضلتهم الأمنية. لكن الحلف كان بمثابة مظلة شبه مجانية أيضاً، إذ ظلت الولايات المتحدة تتحمل العبء الأكبر من الموازنة الدفاعية للدول الأعضاء. وبحسب تقرير الموازنة الدفاعية لعام 2015 المنشور على الموقع الإلكتروني للحلف، بلغت موازنة الدول الأعضاء في الحلف 900 مليار دولار، حصة الولايات المتحدة منها 650 مليار دولار، أي ما يعادل 72%.
يزعم ترامب أن أوروبا تعد بمثابة راكب مجاني (Free Rider) تحت المظلة الأمنية التي تتكفل واشنطن بتوفيرها، في حين تخصّص الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف أكثر
موازناتها على الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي والبنية التحتية، ما يجعلها حقاً دول رفاه (welfare state)، بعكس الولايات المتحدة التي ظل 46 مليوناً من مواطنيها من دون تأمين صحي، حتى تمكن الرئيس، باراك أوباما، من إقرار نظام التأمين الإلزامي (Obama Care) عام 2010. وفي حين يعيش عشرات ملايين الأميركيين تحت خط الفقر، في نظام رأسمالي لا يوفر لمواطنيه أبسط احتياجاته من دون حساب.
إذا كان ترامب يعني ما يقول فهذا يعني أن دول حلف الناتو الأوروبية سوف تقول وداعاً لعهد الحماية المجانية، وسوف تضطر لتخصيص مبالغ أكبر لموازناتها الدفاعية، ما يعني أن دولة الرفاه التي عرفتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية لن تعود على الأرجح موجودةً. لكن آثار سياسات ترامب قد لا تتوقف هنا، إذ قد تؤدي، كما يخشى بعض الأوروبيين، إلى تركهم وحدهم في مواجهة موسكو المتربصة، لتفكيك أسس التحالف الغربي الاقتصادية (الاتحاد الأوروبي) والأمنية (حلف الناتو)، ولتعود بأوروبا إلى سياسات القرن التاسع عشر، عندما كانت روسيا جزءاً أصيلاً من نظام التحالفات وموازين القوى الأوروبية، حيث كانت بعض الدول الأوروبية ترضخ لإرادتها، أو تطلب حمايتها. بهذا المعنى، قد يكون وصول ترامب إلى البيت الأبيض نقطة تحول في تاريخ القارة الأوروبية، لأنه يكون قد أنهى الحلم الأوروبي، وعاد بأوروبا إلى مرحلةٍ سابقة على نظام الحرب العالمية الثانية، وهو ما لم يستطع انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة أن يفعله. عندها، يكون من حق الأوروبيين فعلاً أن يعبّروا عن كل هذه الخشية من فوز ترامب بالرئاسة الأميركية.