سقوط "السلفية الرأسمالية"

سقوط "السلفية الرأسمالية"

19 نوفمبر 2016
+ الخط -
يهاجم الشركات متعدّدة الجنسيات، ويتعهد بمراجعة اتفاقيات تجارية دولية، بل يلمح إلى انسحاب بلاده من منظمة التجارة العالمية. لا نتحدّث عن يساري راديكالي، بل عن الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب.
في أثناء حملته، وقف ترامب أمام حشد بولاية متشيغان، معقل صناعة السيارات، ليصب هجومه على شركة فورد. اتهم الشركة بعدم الوطنية، وبـ "السعي المجرد إلى الربح"، بسبب نقلها مصانع إلى المكسيك باستثمارات 2.5 مليار دولار، وهدّد بفرض جمارك ضخمة بقيمة 35% عليها.
في مشهدٍ مشابه، ألقى ترامب خطاباً حماسياً في أوهايو، معقل صناعة الصلب، تعهد فيه بمراجعة اتفاقيات التجارة التي تسمح بمنافسة الواردات الرخيصة، وهي الاتفاقيات التي تؤيدها هيلاري كلينتون، كما وعد بمراجعة قوانين الهجرة، كي لا يأخذ العمال المكسيكيون والهنود وظائف الأميركيين.
حتى شركة أبل لم تنجُ من قصف ترامب، حيث هدّد بإجبارها على إعادة مصانعها في الصين إلى داخل البلاد.
ينافي هذا كله تماماً القيم الرأسمالية الصارمة. منذ متى تُسمع انتقادات لـ "الربح المجرد"؟ أليس هذا هو المُحرك الأسمى للاقتصاد؟ ومنذ متى تظهر كلمة "الوطنية" مع الشركات متعدّدة الجنسيات؟
هكذا اجتذب ترامب أصوات العمال والفئات الأفقر، حتى من معاقل الديمقراطيين. لم يصابوا بجنون مفاجئ، بل صوّتوا بعقلانية لمصالحهم، لمن تحدّث عن "ما يردّدونه وهم جالسون على مائدة الطعام"، على حد تعبير مدير نقابة في أوهايو. كان بهذه الولاية عام 1990 مليون وظيفة صناعية، بينما أصبح العدد اليوم 680 ألفاً فقط.
بلغت الموجة ذروتها مع ترامب، لكنه لم يبدأها. كانت خطة الإنقاذ الأميركية بعد أزمة 2008، في جوهرها، عملية تأميم، وهو إجراء منافٍ لأبجديات اقتصاد السوق التي تُحتم أن يُترك الخاسرون للغرق. في مايو/ أيار الماضي، قالت وزارة التجارة الأميركية إنها ستفرض رسوماً بقيمة 500% على واردات الصلب الصينية، وأيضاً اتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً مشابهاً، وهو الذي شهد تظاهر آلاف عمال الصلب في بلجيكا.
صوّت الإنجليز، في بريطانيا، خارج المدن الكبرى، للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، لأسبابٍ شبيهة. المزارعون لا يمكنهم منافسة المحاصيل الرخيصة الواردة من شرق أوروبا، والعمال أيضاً يعانون من المنافسة نفسها، حيث بلغ عدد عمالة شرق أوروبا في بريطانيا 1.7 مليون عامل.
لعقودٍ، كانت الجهات الغربية والدولية تدعو الدول النامية إلى تحمل الأعراض الجانبية للتحول الرأسمالي، مثل تشريد العمالة، أو تدمير الصناعات المحلية، لأن نظرية "تساقط الثمار" حتمية، وآليات السوق ستنتهي بالأفضل. كان يتم ترديد هذه القواعد بإيمانٍ غيبي، كأنها عقيدةٌ دينيةٌ سلفية، وإذا انتهى الحال بتدمير الاقتصاد المحلي، يتم توجيه اللوم للتطبيق لا النظرية. لا يختلف هذا كثيراً عن العقيدة الشيوعية الغيبية بـ"انتصار البروليتاريا".
سابقاً، كانت هذه القواعد تصب لصالح الدول الغربية، فقدراتها الصناعية تُنتج سلعاً أرخص وأكفأ، وووفرتها المالية تمكّنها من دعم المزارعين ليصدّروا محاصيلهم، بالإضافة إلى تأثير الهيمنة السياسية على حكوماتٍ قمعيةٍ تشتري الدعم الدولي.
لكن، تغيرت المعادلة في السنوات الأخيرة. اتجهت الشركات إلى التصنيع في دول العمالة الرخيصة، كما ظهرت منافسة الواردات، خصوصاً من الصين. هنا، تبخرت كل النصائح عن تحمل "ثمن الإصلاح"، كأنها للشعوب النامية فقط، وانهارت عملياً العقيدة المُحافظة الرأسمالية، وأصبحت الجماهير الغاضبة تصوّت لمن يعدها بالتغيير. ولهذا، نشهد صعوداً للميول اليسارية واليمينة، نشهد كوربن وتريزا ماي في إنكلترا، كما نشهد بيرني ساندرز وترامب في أميركا. وبالطبع، لا نُهمل أسباباً أخرى كثيرة، غير التحليل الاقتصادي.
ليس ما نشهده حتى الآن مراجعة حقيقة للمسار، فالفائزون اليمينيون يوجهون الغضب ضد المهاجرين، أو يريدون فرض قيودٍ تمنع استفادة اقتصاديات الدول الأخرى. لكن، لا أحد منهم توجه إلى سياساتٍ حمائيةٍ حكومية أوسع، أو إلى تضييق فجوة عدم المساواة. حين يرحل العامل المكسيكي سيترك مكانه لعامل أميركي فعلاً، لكنه سيتقاضى الأجر الزهيد نفسه، ويعاني من الخدمات المحدودة نفسها. طبعاً تعبيرات "الزهيد" و"المحدودة" نسبية، ولا علاقة لها بأوضاع بلادنا.
السنوات المقبلة ستكون حاسمة في تحديد شكل العالم الجديد.