لماذا ينتصر اليمين العنصري؟

لماذا ينتصر اليمين العنصري؟

18 نوفمبر 2016
+ الخط -
لم يحظ انتصار دونالد ترامب، في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، برد فعل حقيقي، قياساً لحالة الصدمة والفاجعة، على خلفية انتصاره أخيراً في الانتخابات النهائية للرئاسة الأميركية. كيف لا، وهو الممثل الأبرز لتيار اليمين العنصري في أميركا، وربما في العالم المتقدم والمتطور، وها هو يتبوأ المنصب الأهم والأكثر فاعليةً وقدرةً على إدارة شؤون العالم المختلفة. وكأن صعود ترامب ذي التوجهات اليمينية والعنصرية كان في غفلة منا، ولم يأت بعد مسيرة طويلة من هزيمة الخصوم والمنافسين الأقل عنصرية "في ظل الغياب الكامل لليسار". ليضاف انتصار ترامب الجديد إلى سلسلة من انتصارات اليمين العنصري على مستوى العالم المتقدم أخيراً، وخصوصاً في قضيتي الاستفتاء البريطاني حول الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي تحديد الموقف الإنساني والسياسي من قضية اللاجئين ضمن الاتحاد الأوروبي.
فعلى الرغم من الفوارق بين القضايا الثلاث السابقة، إلا أنها لا تخلو من أوجه شبهٍ عديدة، ومنها الاصطفاف الإعلامي الواضح، على النقيض من التوجهات اليمينية العنصرية في كل منها، والتي ذهبت، في أحيانٍ كثيرة، إلى التأكيد على هزيمتها هزيمة نكراء في الاختبار الانتخابي المستحق، إلا أن الرياح لم تجر كما تشاء السفن الإعلامية، أخيراً، على الرغم من سطوة الإمبراطوريات الإعلامية على صوغ السياسات الدولية. حيث عمل الإعلام على التخويف والتهويل من تقلد المرشح الجمهوري، ترامب، لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية، نظراً لطروحاته وآرائه الإشكالية العنصرية الفجّة في أكثر من ملف، وأبرزها نيته إلزام حكومة المكسيك بتشييد جدارٍ على طول الحدود المشتركة معها، وعلى نفقتها لإيقاف طوفان الهجرة غير الشرعية من المكسيك نفسها، وأيضاً عزمه على إعادة التفاوض مع الأوروبيين والصينين والكنديين والمكسيكيين بشأن العلاقات التجارية المتبادلة، بغية تحقيق اتفاقاتٍ أفضل تتناسب مع مكانة الدولة الأميركية وقوتها، ما يكفل الحماية للمنتجات الصناعية الأميركية في السوق المحلية، حسب ترامب، فضلاً عن مواقفه الشمولية المعادية لطيف واسع من المواطنين والمقيمين والوافدين إلى الأراضي الأميركية على خلفيات قومية وعرقية وإثنية كاللاتينيين والعرب والمسلمين.
هذا على مستوى التغطية الإعلامية للانتخابات الأميركية أخيراً، والتي تتشابه من حيث
المضمون والمآل في التغطية الإعلامية لكلٍّ من القضيتين سابقتي الذكر، حيث سار الاستفتاء البريطاني المعني برصد آراء المواطنين في الخروج من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه، عكس التوجهات الإعلامية الداعية إلى البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، للحفاظ على استقرار البورصة البريطانية وحرية حركة السلع والاستثمارات البريطانية أيضاً، بينما تشبث الخطاب اليميني العنصري بخيار الخروج، للتخلص ممن اعتبرهم الدخلاء على المجتمع الأصلي، سواء كانوا مهاجرين أو من مواطني الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ذوي الاقتصاديات الأدنى، وخصوصاً الإسبان والطليان ومواطني دول أوروبا الشرقية، على اعتبار أنهم يسلبون المواطنين فرصهم في العمل والعيش الكريم، لينتصر الخطاب العنصري المتبني مشكلات المفقرين، وذوي الدخل المحدود، بغض النظر عن واقعية الطرح.
وعلى صعيد آخر، فشل الإعلام في الحفاظ على التأييد الشعبي للسياسات الأوروبية والألمانية، خصوصاً في دمج اللاجئين ضمن المجتمعات المحلية، على الرغم من تسليطه الضوء على تصريحات ودراساتٍ عديدة، تشير إلى الخبرات العملية للاجئين في دولهم الأم، وعلى حاجة سوق العمل لهذا النوع من الأيدي العاملة، القادرة على دفع العجلة الاقتصادية المحلية قدماً، للخروج من أزماتها.
في الخلاصة، يعمل التيار اليميني على حرف الأسباب الكامنة خلف المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعاته المحلية تجاه المستضعفين من الوافدين الجدد لها، بدلا من تحميل دوائر صنع القرار السياسي والاقتصادي لهذه المسؤولية، الأمر الذي يضمن استمرار تحقيق الأرباح الطائلة لهذه الدوائر، بينما تبنت غالبية الوسائل الإعلامية الخيار الأقرب للتجمعات الصناعية الأوروبية والأميركية لتكفل انخفاضاً، ولو نسبياً، في تكاليف الإنتاج عبر زيادة تنافس اليد العاملة على فرص العمل القليلة، وتحافظ من حجم الأسواق المحلية والعالمية لمنتجاتها أو توسعها. أي أن النزاع والصراع السياسي في كل من القضايا الثلاث هو حول سبل إدارة
الأزمة الاقتصادية العالمية، لا حلها. وبالتالي، غاب عن كلا التيارين أي نقاش حقيقي لجميع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، كما غاب البحث في الحلول الحقيقية لها كذلك، مثل إقرار القوانين التي تلغي (تخفض) الضرائب عن الفقراء ومحدودي الدخل، وتزيد من الضرائب على أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الرواتب الفلكية، أو التي تكفل حقوق العاملين وتمنحهم حداً أدنى من الرواتب، بحيث يتناسب مع مستوى مقبول للمعيشة على حساب القوانين الحالية التي تحمي أصحاب رؤوس الأموال وتدعمهم، وتكفل زيادة أرباحهم على حساب باقي الفئات والطبقات الاجتماعية، بالإضافة إلى زيادة دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي من خلال إقرار شمولية الضمان والرعاية الصحية ومجانية التعليم، فضلاً عن تفعيل دور الدولة في تأمين فرص عمل جديدة ووفيرة، عبر زيادة الاستثمارات الصناعية.
وعليه، لم يعد ممكناً اعتبار صعود اليمين العنصري طارئاً أو فردياً، وإنما تحول إلى ظاهرةٍ، تعكس في طياتها مجموعة من المفاهيم، منها اختلاف الرؤى والسبل في تجاوز تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية داخل البنى والطغم المالية العالمية، وتمدّد أزمة المنظومة الليبرالية العالمية، لتطال غالبية العناصر المكونة للعصر الرأسمالي، حيث نشهد مرحلة ما بعد الأزمة الاقتصادية، والتي طالت أزمة الحضارة والثقافة والسياسة الرأسمالية. ونلاحظ سقوط قيم العدالة والمساواة الإنسانية، حتى في دول العالم الأول، ما ينذر بتصاعد الصراعات الدولية العسكرية على فرض مصالح الطغم المالية بشكل فج، خلافاً لسياسة الاحتواء والتقاسم المعمول بها سابقاً.