عن الترامبية

عن الترامبية

16 نوفمبر 2016
+ الخط -
يقدّم الكاتب الفرنسي، موليير، في مسرحيته "البورجوازي الظريف"، شخصية السيد "جوردان" الذي ورث ثروةً هائلةً من والده، جناها من تجارة الأقمشة، فأصبح "بورجوازياً" بمقاييس ذلك العصر ومفاهيمه. لكن السيد جوردان الأحمق ستكون له تطلعات أكبر من تطلعات والده، فهو لم يعد يكتفي بالانتماء إلى الطبقة المتوسطة المسماة "بورجوازية" في ذلك العهد، وإنما أصبح يتطلع إلى أن يكون نبيلاً من طبقة "النبلاء". ومن أجل تحقيق هذه الغاية، اشترى ملابس النبلاء المزركشة. ولكن، كان عليه أيضاً أن يمتلك مهارتهم في تذوق الفنون، وفهم الشعر، والاستمتاع بالموسيقى، وإجادة فنون الحرب. وعلى الرغم من تقدمه النسبي في العمر، منح لنفسه أساتذة في كل أنواع الفنون التي يتقنها النبلاء، ليلقنوها له، فتحولت الدروس إلى لوحاتٍ ساخرةٍ، بنى عليها موليير مسرحيته الكوميدية.
وفي أحد فصول هذه المسرحية، ينقل موليير أحد فصول درس الفلسفة، عندما يسأل جوردان أستاذه عن الفرق بين الشعر والنثر، فيجيبه بأن الحديث الذي يدور بينهما هو النثر بعينه، فيصرخ جوردان مبتهجا "يا إلهي.. منذ أربعين سنة، وأنا أقول نثراً من دون أن أعرف ذلك.. كم أنا مدين لك بهذا الجميل". وهكذا تتواصل فصول المسرحية التي يتحول فيها السيد جوردان إلى أضحوكة أمام أساتذته، يثير اشمئزازهم وشفقتهم في الآن نفسه، أما النص المسرحي فجاء قطعةً رائعةً من المسرح الكوميدي الساخر.
التذكير بمسرحية موليير وبطلها السيد جوردان أسوقه هنا للإحالة على قصة السيد دونالد
ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأميركية المنتخب حديثاً. فهناك تقاطعٌ كثير بين القصتين. السيد "ترامب" ثري وملياردير بمقاييس هذا العصر، وفي آخر أيام عمره قرّر هو الآخر أن يدخل غمار السياسة، ويصبح من "كبار السياسيين"، ولم لا.. رئيسهم. وهكذا، بدأ تعلم السياسة، وقد تابعنا جميعا هفواته وقفشاته ونوادره سبعة عشر شهراً، مدة الحملة الانتخابية التي أثار فيها ترامب اشمئزاز كثيرين، وشفقة كثيرين، وحقد بعضهم، وتعاطف البعض الآخر.
ومثل السيد جوردان الذي ظل ينطق نثراً أربعين عاماً، من دون أن يعي ذلك، فالسيد ترامب، بخطابه وأدائه، كان يؤسس لمدرسة جديدة في السياسة، من دون أن يعرف ذلك، إنها مدرسة "الترامبية"، نسبة إلى شخصه. وهي مزيج من الشعبوية والعنصرية والفجاجة والفظاظة والرعونة والفحش والبذاءة.
لكن "الترامبية" لا تعني هذا فقط، فقد بدأت من الآن كثير من كبريات الصحف العالمية تستعمل هذا "المفهوم"، للإشارة إلى سياسات الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأميركية في السياسة والاقتصاد والمجتمع. فقد كتبت كاثرين رامبل في "واشنطن بوست" غاضبةً إن "الأميركيين صوّتوا على الترامبية فليجربوها"، معتبرة أن هذه الترامبية تشكل أخطر تهديد يواجه الاقتصاد الأميركي في الوقت الراهن ستكون له عواقب كارثية عليهم، مشبهةً ذلك بإعصار اقتصادي مدمر من الفئة الخامسة، ستطاول مخاطره العالم بأسره. وفي ألمانيا، صوّرت مجلة دير شبيغل ترامب نيزكاً ملتهباً في طريقه إلى الاصطدام بكوكب الأرض، وعلقت على ذلك بعنوان "نهاية العالم". ووصف المفكر اليساري نعوم تشومسكي التصويت لصالح ترامب بأنه حصيلة مجتمع متداع وماضٍ بقوة نحو الانهيار.
ومنذ الآن، بدأ الخبراء يتوقعون أن ينجم عن "الترامبية"، أي السياسات الاقتصادية التي ينوى ترامب تنفيذها، والمتمثلة أساساً في خفض الضرائب على الأغنياء والحد من تدخل الحكومة في الاقتصاد، انكماش اقتصادي وانخفاض في الوظائف، وبالتالي ارتفاع نسب البطالة، عكس كل الوعود الوردية التي أطلقها ترامب في حملته الانتخابية. ويصاحب هذه السياسة الاقتصادية خطاب سياسي عنصري فج، يتوجه إلى مخاطبة وجدان اليمين الأميركي بلغةٍ عنصريةٍ، تعبر عن المخاوف التي تنتاب المتشدّدين البيض الأميركيين من الأميركيين الآخرين من أصول أفريقية ولاتينية وآسيوية.
هذا الخليط من السياسات الاقتصادية الكارثية والخطابات الشعبوية العنصرية هو ما يمكن
وصفه بـ "الترامبية". وهنا وجه الشبه بين ترامب وشخصية مسرحية موليير. فترامب يكاد يشبه السيد جوردان الذي لم يكن يعرف أنه يتحدّث نثراً، على الرغم من أنه لم يكن يستعمل سوى النثر في محادثاته، وكذلك ترامب، فتفكيره الاقتصادي وأفكاره السياسية، حتى وإن لم يكن هو يعي معناها، ستنقل بلاده، ومعها العالم، إلى ما بعد "النيوليبرالية" التي جاء بها سلفه الجمهوري، رونالد ريغان، في ثمانينيات القرن الماضي. وقد كان ريغان مثل ترامب، من دون خلفية إيديولوجية أو سياسية واضحة، لكن سياسته أصبحت اليوم توصف باسمه "الريغانية". وأصبحت تدرس في الجامعات أسلوباً اقتصادياً، يقوم على تشجيع اقتصاد السوق المطلق الحرية، والحد من تدخل الحكومات في الاقتصاد، وخفض الضرائب على الأغنياء، ورفع اليد عن السياسات الاجتماعية، ودفع الفرد إلى الاعتماد على نفسه، بدل الاتكال على الحكومة، وترويج الديمقراطية الليبرالية في العالم.. وهذه "الفلسفة" هي التي بنى عليها، فيما بعد، "المحافظون الجدد" الذين هيمنوا على السياسة في عهد آل بوش، تصوراتهم السياسية التي مازال العالم يدفع ثمن تبعاتها الكارثية.
سبق أن عقدت، في مقال سابق (أميركا من ريغان إلى ترامب) في "العربي الجديد" (11/5/2016) مقارنةً ما بين الاثنين، ولم أستبعد حينها أن يصوّت الأميركيون لترامب، على الرغم من فجاجة خطاباته طوال حملته الانتخابية. وأعود اليوم إلى تأكيد أن "الترامبية" و"الريغانية" هما نتاج البراغماتية الأميركية، وخريجتا مدرسة تلفزيون الواقع الأميركي، إنهما نتاج سياسات اليمين الليبرالي المحافظ، واليوم يجب أن نضيف وصفاً آخر إلى هذا اليمين، هو الشعبوي.
وعندما يجتمع كل هذا الخليط، يعطينا لا محالة "كوكتيل مولوتوف"، يصعب التنبؤ بمخاطر استعماله مستقبلاً.

دلالات

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).