الانتخابات الأميركية بعيون تونسية

الانتخابات الأميركية بعيون تونسية

13 نوفمبر 2016
+ الخط -
تابع التونسيون الانتخابات الأميركية بشغف كبير، فلقد تفاعل معها الرأي العام بأشكال مختلفة، وربما كان للنخب الإعلامية والسياسية الدور الأبرز في ذلك كله، فإذا كانت ردود الفعل الرسمية محتشمةً، واكتفت بعبارات بروتوكولية قليلة، في حذر شديد، فإن النخب الإعلامية استثمرت ذلك، وصنعت منه حدثاً حقيقياً. وقد سجلت تونس أطرف ردود الأفعال "الشعبية" التي تناقلتها وسائل إعلام دولية عديدة، حينما أقدم كهلٌ على تسلق الساعة العملاقة المنتصبة في قلب شارع الحبيب بورقيبة، مهددا بالانتحار، إثر سماعه قدوم دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وكانت هذه الساعة قد شهدت عمليات مماثلة وأشكالاً مختلفة من الاحتجاجات الغريبة أحياناً، وهي هيكل معدني طوله حوالي 35 متراً، شيدت في عهد زين العابدين بن علي، معوّضة تمثال الرئيس السابق، الحبيب بورقيبة، وهو يمتطي صهوة جواد، بمناسبة عودته من المنفى في يونيو/ حزيران 1955. قالت الشرطة التي هبت إلى المكان إن الرجل كان في حالة هذيان، فبعد أن عبر عن رفضه عودة بن علي كان يتوسل إعادة باراك أوباما الذي يحبه كثيراً، معرباً، في الوقت نفسه، عن كرهه ترامب.
بعيدا عن تدقيق المنطق الداخلي المتحكّم في عملية التصويت في الانتخابات الأميركية، وبنيتها التي وزعت الكتل التصويتية، بما أفضى إلى ترشح دونالد ترامب على حساب منافسته الشرسة، هيلاري كلينتون التي حدّدها، كما كان يحدث دائماً، ثالوث المال والإعلام والمصلحة، كما يراها الناخبون، فإن النخب الإعلامية، وحتى السياسية، التونسية، قرأت الانتخابات على نحو مغاير، حتى غدت وكأنها حدث تونسي خالص، يفهم من خلال مفردات الثقافة السياسية التي شاعت في السنوات الأخيرة، وتحديدا بعد الثورة، فقد تم تفكيك بنيته ودلالاته، من خلال نظارات تونسية، حدّدتها مفردات الصراع السياسي الداخلية، فانقسام المجتمع الأميركي إلى
نصفين سيعاني من صداعهما المجتمع الأميركي سنوات عديدة، ستكون له نسخة تونسية، تعيد رسم تشقق المجتمع التونسي إلى مخيمين متناحرين. قالت مذيعة في تلفزيون خاص يسجل أرقاما محترمة من نسب المشاهدة، "أبدأ بإبلاغ تعازيّ الحارة لأيتام هيلاري كلينتون"، وهذه عبارة يستعملها عادة أنصار الثورة لنعت مناصري النظام السابق، و نعتهم بأيتام بن علي، خصوصاً أن بعض الخصوم السياسيين يعتقدون أن محسن مرزوق الذي روّج، باستمرار، صديقاً مقرباً للسيدة هيلاري خسر حليفاً مهماً، كان سيستفيد منه لو انتصر. كما تم التشفي من التيار الإسلامي الذي يعتقد بعضهم، سذاجةً أو مكراً، أن هيلاري مكنت له في الأرض، وأنها وأوباما كانا وراء الربيع العربي، وخصوصاً الإسلام السياسي، ولربما حتى النسخ الأكثر دموية منه، أي المجموعات الإرهابية الدينية.
يستغلّ الإعلام والنخب السياسية الطفولية كل حدثٍ، وقد كتبت عدة صحف أن قدوم ترامب رئيساً للولايات المتحدة يعني نهاية الإسلام السياسي بكل تعبيراته، وأن تركيا بدأت تستعد لتكفين تجربة رجب طيب أردوغان في تركيا، وأن حركة النهضة أيضا على قائمة الاختفاء التدرجي، مستندين، في ذلك، إلى تصريحاتٍ نسبت إلى مستشار ترامب السياسي ذي الأصل العربي، وليد فارس، إنه بدأ صياغة مشروع قرار، لتمريره لاحقاً لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين ومشتقاتها جماعات إرهابية.
لم تكتف هذه القراءات التونسية بالتداعيات المحتملة لانتصار ترامب على الساحة السياسية، بل وزّعت المناصرين لهذا المترشح أو ذاك، ضمن الاستقطاب الحاد الذي يميّز الساحة التونسية، والذي ينعكس يدوره حتى على المواقف الدولية، فتوقع بعضهم تفكّك السعودية، وانتصار بشار الأسد واستقرار العراق.. إلخ. كان لترامب، وهو الذي لم يباشر بعد مسؤولياته، مفعولاً سحرياً يضاهي مصباح علاء الدين الذي ما أن يفركه التونسيون، حتى يستجيب لأمانيهم وأحلامهم المخبأة والدفينة.
انتقلت المعارك إلى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تعمق الانقسام بين الترامبيين والهيلاريين التونسيين الذين تبادلوا الاتهامات، وانتصر بعضهم للحشود التي خرجت محتجةً على ترامب، حتى أن بعضهم رأى بداية اعتصام باردو (أميركي)، وهو الذي أدى إلى رحيل حكومة الترويكا سنة 2014. وفي غمرة انتشاء بعضهم، وحزن آخرين، تعيد الانتخابات الأميركية تجديد روح الانقسام لدى التونسيين، في ثقافةٍ سياسيةٍ هشّة.
لن يستوى القول إذا قلنا إن المرشحين وجهان لعملة واحدة. ولكن من المبالغة القول إن فوز ترامب سيكون زلزالاً، خصوصا فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، والقضايا العربية خصوصاً، وهي التي لم تستفد كثيراً من فوز هذا المرشح أو ذاك عقوداً طويلة، فما بالك بالشأن التونسي الذي ستظل الإدارة الأميركية تنظر إليه من زاويةٍ أمنية صرفة، بقطع النظر عن تغير الرؤساء.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.