الاتحاد الأوروبي وانتخاب ترامب

الاتحاد الأوروبي وانتخاب ترامب

13 نوفمبر 2016
+ الخط -
سقط، في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1989، جدار برلين، وسقطت معه الثنائية القطبية، وانتهت الحرب الباردة، وهدمت أسوار كثيرة من الكراهية. وفي التاسع من نوفمبر 2016، تم انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. أي بعد 27 عاماً من سقوط جدار برلين، وسيطرة الفكر الليبرالي على العالم ومبادئه، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الإنسان. والأهم بالنسبة لأوروبا هو وجود أوروبا موحدة، كما لم تكن من قبل. والتوزان الحقيقي القائم في الاتحاد الأوربي مبني علي التفاهم بين العدويين التاريخيين، فرنسا وألمانيا، ومعظم المواقف التي يتم اتخاذها تكون بالتشاور بين الطرفين. صحيح أن هناك اختلافات فيما يتعلق بالسياسة الخارجية لكل دولة، خصوصاً تجاه الشرق الأوسط، إلا أن الاتفاق هو سيد الموقف فيما يتعلق بالقيم الأوروبية، والحفاظ علي بنية الاتحاد الأوربي، وكذلك الموقف من تركيا.
ويعتبر الاتحاد الأوروبي أحد الكيانات السياسية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، وهو بمثابة الذراع السياسية لأميركا في سياستها الخارجية، خصوصاً في ما يتعلق بالمواجهة مع العدو الاستراتيجي روسيا. ويبدو أن في الموقف الآن نوع من الغموض والحيرة، وقد عبر وزير الخارجية الألماني، فرانك شتاينمر، إنه لا يمكنه التنبؤ بما ستكون عليه السياسة الخارجية الأميركية في المستقبل القريب. المنبع الأساسي للتخوف الأوروبي هو أن يكون هناك تقارب بين الرئيس الأميركي الجديد وروسيا، ما يعني اختلال التوازنات القائمة داخل القارة الأوربية، خصوصاً بعد الأزمة الأوكرانية، وفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية ضد روسيا. وقد بدا الموقف واضحاً منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة الأوكرانية، وضم روسيا جزيرة القرم، هو أن على أوروبا أن تجد حلاً بنفسها، فالأميركان لا يريدون التدخل في ذلك. وقد جعل هذا الموقف الأوروبيين يفكرون كثيراً فيما يتعلق بحلف شمال الأطلسي (الناتو). وفي حملته الانتخابية، عبر ترامب صراحة أنه لا يريد البقاء في هذا الحلف، أو العمل داخله. وعليه، يجب أن يكون هناك دفع للأموال تجاه المساهمة الأميركية داخل الحلف. يبدو أن ترامب ينظر إلى الحلف نظرة اقتصادية رأسمالية، تتسق مع خلفيته التي جاء منها، إلا أنها، من الناحية الاستراتيجية، قد تكلف أميركا وكذلك الأوروبيين الكثير.
إلى ذلك، منذ سنوات، وأوروبا توجه الاتهامات لدول شرق أوروبا، خصوصاً المجر وبولندا
والشيشان، بأنها المسؤولة عن زيادة الشعبوية داخل القارة العجوز. وفي المقابل، يرد الآخرون بأن ديمقراطية غرب أوروبا غير ناضجة، وأن المسؤولين عن صياغتها هم المسؤولون عن تصاعد اليمين، والمثال عن برلسكوني ومارين لوبان وفروك بتري (زعيمة اليمين الألماني المتطرف). وقد جعل فوز ترامب الأمور أكثر وضوحاً، وأكثر واقعيةً، بالنسبة لليمين المتطرّف، فأوروبا تقف الآن في مواجهته، وتحاول جاهدة أن تقاومه. الرؤية التي يتبناها اليمين الأوروبي المتطرّف، خصوصاً فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي ككيان سياسي هو تفكيك الاتحاد بالخروج منه. فالأمر لم يعد مزحة كما كان يظن بعضهم، بل حدث بالفعل، خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي علي يد اليمين، وهناك الآن صعود لليمين الألماني، وفوزه بأغلبية الأصوات في عدد من الولايات الألمانية، وحصوله على 14%,2 في الانتخابات التي أجريت في العاصمة برلين. ويسعى اليمين المتطرف في فرنسا، بزعامة مارين لوبان، للوصول إلى الرئاسة، ولو تم ذلك فإنه يعني واقعياً نهاية الاتحاد الأوروبي.
وتجعل الشعبوية التي تجتاح العالم الآن من عدائها للمهاجرين، ومحاربة التطرّف الإسلامي وكذلك العودة إلى القوميات المحلية، أسساً ترتكز عليها في سياستها، وهو ما يعني ضمنياً، لو وصلت تلك الأحزاب إلى السلطة، فشل العولمة نموذجاً سياسياً عالمياً وسقوط الرأسمالية وتقويض النظام الليبرالي، وولادة نظام عالمي جديد لا يعرف، حتى اللحظة، ما شكله، لكنه يعني شيئاً واحداً، وهو أنه عصر الشعبوية. ولعل هذا ما جعل النقاشات الأكاديمية داخل المؤسسات الأكاديمية الغربية تتساءل: أين الخلل؟ وتتجه الآنظار الآن، في الداخل الأوروبي، إلى إعادة النظر في النموذج الاقتصادي والسياسي التي تبنته أوروبا عقوداً، والذي خلف فجوةً، تسلل من خلالها اليمين المتطرف، وبنى شعبيته على أساسٍ منها. التغيير قادم، لكن، كيف هو الاتجاه، لا أحد يعرف.
وبلا شك، يقف الشرق الأوسط، منذ عقود، ساحة للصراع والتجارب السياسية الغربية، أو بمعنى آخر في موقف المفعول به. تتغير الآن مواقف كثيرة، فبعد انسحابها من العراق، خلفت أميركا فراغاً وراءها، استطاعت إيران أن تملأ هذا الفراغ. الوضع السوري المتأزم والحرب اليمنية جعلا الإيرانيين يتمدّدون أكثر. وجعل هذا الموقف للروس موضع قدم في الشرق الأوسط، ولعل الملف السوري كان أبرز شيء على ذلك، فتقريباً أصبحت مفاتيح الحل عبر روسيا. وفي هذا الشأن، لا تتوقف الانتقادات الأوروبية لروسيا والمواجهات السياسية بين الطرفين، وقد بدا ذلك واضحاً داخل مجلس الأمن. الموقف الأوروبي تجاه القضية السورية هو رحيل بشار الأسد، والتأكيد على بناء حكومة ديمقراطية، تكون المعارضة شريكاً أساسياً فيها. الموقف الأوربي تجاه سورية نابع من أمرين أساسين: الأول نتيجة للضغط الذي تعاني منه أوروبا من خلال موجة اللاجئين التي عكست أزماتٍ كبيرة داخل الاتحاد الأوروبي، كمؤسسة سياسية، وعدم قدرته على الاتفاق، وثانياً في التأكيد على القيم واحترام حقوق الإنسان التي تعتبر أحد مرتكزات الديمقراطية والسياسة الأوروبية الخارجية. لذا، جاء تصريح المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، إن على ترامب احترام قيم الديمقراطية الأساسية، وكذلك دعوة الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إلى وجود أوروبا موحدة قادرة على حماية قيمها. فهل يعني ذلك أن عصر الاستقلال الأوروبي عن السياسة الأميركية قد بدأ؟
وبشأن الملف المصري، فإنه يستحوذ على نقاشات كبيرة داخل الأروقة السياسية الغربية،
فالموقف الأوروبي تجاه النظام المصري قائم، في جزء كبير منه، على رفض سياسات هذا النظام، وبين الكر والفر والضغوط التي تمارس من هنا وهناك عليه، خصوصاً في ملف حقوق الإنسان، ما جعل العلاقة بين الطرفين، الأوروبي والمصري، قائمة على التوتر. قد يتغير الموقف الآن، فالرئيس الأميركي الجديد لا يكترث بملف حقوق الإنسان، ما قد يعزّز من سياسات النظام المصري القمعية في الداخل، وبالتالي، نرى انقساما أوروبيا أميركيا حول ملف جديد بعد الملفين السوري والعلاقة مع روسيا، بالإضافة إلى الملف التركي الذي لم تتضح معالمه بعد.
والموقف الأوروبي تجاه تركيا قائم على رفض دخولها الاتحاد الأوروبي، كما أن الأوروبيين طالما وصفوا سياسات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأنها قمعية، وأن أردوغان لا يحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير، وبالتالي، لا تنطبق عليه معايير الاتحاد الأوروبي. بالطبع، الحديث هنا عن الأسباب المعلنة من وجهة نظر الاتحاد الأوروبي. أما غير المعلنة فلها سياق آخر. وقد ازداد التوتر الأوروبي الأميركي أكثر، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا. واتصف الموقف الأوروبي بالاتساق مع الموقف الأميركي تجاه النظام التركي. الآن، ومع تغير الإدارة الأميركية كيف سيكون شكل العلاقة بين الأتراك والأوروبيين، وهل سيكون هناك خلاف واضح بين الإدارة الأميركية الجديدة والأوروبيين فيما يتعلق بالشأن التركي؟ تتسع الفجوة بينهما، إلا أن حجمها واتجاهها ليسا معروفين بعد. لكنها ستكون واضحة في الأيام المقبلة.
ويبدو أن المسألة باتت أكثر تعقيداً، وأننا سنشهد عصر القوميات مرة أخرى، إلا أن تلك المرة عصر القوميات الجمعية، بمعنى أن تكون أوروبا موحدة، يجمعها جامع واحد، قادرة على الاستقلال عن القرار الأميركي، عندما يخالف إرادتها ويهدّد مصالحها. أو سنشهد عصر القوميات والتشرذم على مستويات متعدّدة، وتفكّك كيانات سياسية ساهمت، عقوداً، في إقامة التوازن السياسي في العالم. في الجانب الآخر، على الأميركان والأوروبيين أن يغيروا سياستهم التي اعتمدت على محاربة التطرّف الإسلامي (والذي ساهموا كثيراً في صنعه) وأن يقوموا بمحاربة التطرّف الشعبوي الذي نشأ داخل المجتمعات الغربية. السؤال الأبرز الآن: إلى ماذا تتجه الأمور، وما هو شكل النظام السياسي العالمي الجديد الذي بدأ يتشكل؟
BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.