محسن فكري و"الحكرة" في المغرب العربي

محسن فكري و"الحكرة" في المغرب العربي

12 نوفمبر 2016
+ الخط -
يعيش المغرب، منذ أيام، على وقع جريمة شنعاء، كادت أن تعيد إلى الواجهة سيناريو اشتعال شرارة "الربيع العربي" في 2011، إثر مقتل صياد السمك محسن فكري، دهسا في شاحنة لرفع القمامـــة، وهو يدافع عن قوته الذي صادرته الشرطة. وتهدف هذه المقالة إلى كلمة تعرف جيدا في المغرب العربي، وتعبر بدقة عن غياب الكرامة الإنسانية في تعاملات السلطة مع "الفرد الرعية" الذي لم يصل، وفق فهم السلطة له ولحقوقه، إلى مصاف "الفرد المواطن" و ما تستلزمه من احترام، وهي "الحكرة"، والتي تنطق بالطريقة نفسها، وبالنغمة نفسها، وتعبّر عن النقمة نفسها من الأوضاع التي وصلت إليها عبثية التعامل مع مصائر الناس البسطاء، والذي يلخصه هاجشتاج "طحن امو" في "تويتر"، والذي يعني بكل بساطة "اطحنه كالقمامة" الموجودة في الشاحنة التي قتل فيها محسن فكري.
ولفهم تناغم كلمة "الحكرة" مع الأوضاع الحقيقية لحقوق الإنسان في المغرب العربي، علينا أن نضعها في سياق الثقافة السياسية لكل من النظم السياسية والشعوب، ذلك أن السياق حقيقة واقعية، لا يمكن لأيٍّ من مؤشرات المنظمات الحقوقية العالمية أن تعبر عنه بتعبيرات المغاربيين أنفسهم.
ويجب الاعتراف بأن الأنظمة السياسية تعامل شعوبها بمنطق "العدل العمري"، أي أنها توقع على من هم خارج دائرة المتحالفين معها، غير المنتفعين من خيراتها والمادحين لكل ما تقوم به، بمنظومة الظلم المتضمنة أنواعاً من "الحقوق"، كالحبس والنفي والتعذيب، فضلاً عن مصادرة الحق في العمل وغلق أبواب الرزق غير المرخصة، وصولاً بالناس إلى الانتحار البطيء، على غرار ما وصل إليه محمد بوعزيزي في تونس في 2011، أو الدهس كما وقع لمحسن فكري.
عند النظر الدقيق في مفردات النظم بخصوص شعوبها، أي إدراكها الكرامة، الحقوق الإنسانية
والحقوق والواجبات التي عليها أن توفرها في إطار "عقد اجتماعي"، يحمل عنوان "العيش الكريم" المضمون عند غيرها من النظم السياسية عبر العالم، نصل إلى مقدار عدم اكتراث تلك النظم لشعوبها، إلى درجةٍ، تم التعبير عنها بكل بلاغة من أحد السياسيين في تسعينيات القرن الماضي في الجزائر، عندما تحدث واصفا اتفاق الحكومة الجزائرية مع صندوق النقد الدولي "الثمار للنخب والدموع للشعب"، أي أن ثمار الاتفاق وإيجابياته ستكون من حظ النظام ودائرة المقربين منه والتداعيات السلبية (الدموع) للشعب البسيط، وهو ما حدث فعلاً، حيث سقط، جراء ذلك الاتفاق وجراء سياسات البطش، قرابة مائتي ألف قتيل في البلاد.
وفي تونس والمغرب، ثمّة منظومة الازدراء نفسها التي يعبر عنها الفرق في النمو بين مدن بعينهـا ومناطق بعينها، حيث تتميز المناطق القريبة من استثمارات "النخبة"، أو ما تعرف بواجهة النظم السياسية (المناطق السياحية الساحلية، مثلا) بنمو اقتصادي كبير، ولكن على خلفية أوضاع اجتماعية للتشغيل والسكن غاية في التخلف والظلم، وهو ما برز بشكل فاضح في تونس قبل الثورة على نظام زين العابدين بن علي بقليل، في مناطق الجنوب خصوصاً، وما يبرز حاليا في المغرب في عشوائيات الدار البيضاء، ومدن أخرى كالحسيمة، مثلا.
تعبر تلك الأوضاع على "الحكرة" (الاحتقار) الذي يقع من الأنظمة على شعوبها، حيث إن تعاملاتها ورؤاها على كل الأصعدة، تتسم بعدم قراءة الأوضاع جيداً، وفق ما تقتضيه أبجديات السياسة العامة ذات الجدوى والفائدة للمواطن. ويعود غياب تلك القراءة إلى غياب عقد اجتماعي حقيقي، يرقى بالفرد من مرتبة "الرعية" إلى مصاف "المواطنة" بحقوق وواجبات مضمونة له، وهو ما تعمل الأنظمة على إدامته في إطار "حوكمة" فريدة، تستأثر فيها لنفسها بالحقوق، وتمتنع عن أداء واجباتها إزاء أولئك الناس الذين لم تنظر إليهم يوماً على أنهم مواطنوها، وذلك هو جوهر ثقافة النظم السياسية، ليس في المغرب العربي وحده، بل تعم العالم العربي. ولذلك قال باحثون إنها "ممتنعة عن الديمقراطية" كاستثناء عالمي، بالنظر إلى تحقق التحول الديمقراطي ورسوخه في العالم، مع الفشل الذريع في العالم العربي برمته، بل وتحوله إلى مشاريع لتهديم الدولة، فضلا عن وقوع الحروب الأهلية والتدخلات الأجنبية (اليمن، سورية، ليبيا).
وترى الشعوب المغاربية أن شيوع ذلك التعامل السافر مع أفرادها هو قطيعة بينها وبين نظمها
السياسية. ولذلك عبّرت عن تلك القطيعة بالعزوف الواسع عن التصويت في الانتخابات منذ عقود. ويكفي الرجوع الى مشاركات المغاربيين في مختلف الاقتراعات الانتخابية، أيا كان شكلها، محليا، برلمانيا أو رئاسيا (تونس والجزائر)، لنتحقق من ذلك العزوف، إضافة إلى انتشار ظواهر "تحويل الخدمات" كالكهرباء والماء والامتناع عن دفع الضرائب بالتهرب الجبائي، وكلها سلوكيات تبرز ما أطلق عليها ظاهرة "عدم قدسية الدولة"، وهي ظاهرة تعود إلى قرون ماضية، بسبب بطش السلطات الاستعمارية (العثمانيين ثم فرنسا) في عموم المغرب العربي (لم يصل العثمانيون إلى المغرب).
وفي النتيجة، يكون المغاربيون قد ردوا على أنظمتهم السياسية بثقافةٍ سياسيةٍ معاكسةٍ، تتضمن القطيعة (العزوف الانتخابي) أو إبراز مبدأ "عدم قدسية الدولة" بسلوكياتٍ، بدأت فردية، ثم عمّت لتشكل ظاهرة جديرة بالدراسة والبحث، وتعبر عن نضوج الشعوب (نضوج عكسي، طبعا) ليكون العقد الاجتماعي بين الأنظمة والشعوب المغاربية معادلةً متضمنةً لحقوقٍ غائبةٍ وظلم وازدراء من الأنظمة في مقابل منظومة عزوف الشعوب وامتناعها عن أداء الواجبات.
يمكن وصف ذلك العقد الاجتماعي، في نهاية المطاف، بأنه ثقافة سياسية عربية - مغاربية بامتياز، صدقتها كل مؤشرات التصنيف المتدني للنظم السياسية العربية في ملفات الفساد، إهدار الحقوق الإنسانية، الحرية والعدالة أيا كان شكلها وميدانها.
وبالعودة الى كلمة "حقرة" (احتقار) المنتشرة في المغرب العربي، يمكن القول إنها لغة العصر، وقد تكون في الأسبوعين الأخيرين، بل في الأعوام الأخيرة، الأكثر تداولاً، وذلك تعبيراً عن حالة الازدراء للحقوق الإنسانية والكرامة، ومرد ذلك كله إلى تلك الثقافة السياسية للنظم العربية المستثناة في ملفات التغيير وإحداث التنمية والتطور والأكثر ذكراً عندما يُشار إلى ظلم يقع، وحرية تقمع، وحق يهدر وإنسانٍ يُهرس... إنها "الحكرة"، أو الإهدار المتعمد للكرامة الإنسانية بلون مغاربي حصرياً.