الروح السورية المأزومة بالعصبيّات

الروح السورية المأزومة بالعصبيّات

12 نوفمبر 2016
+ الخط -
إذا كان علم النفس الاجتماعي يدرس سلوك المجموعات في المجتمع، أي الفئات الاجتماعية أو الطبقات أو الأقليات أو الجماعات الدينية أو القومية أو العرقية... إلخ، ويستخلص منها نتائج تفيد بأنها يمكن أن تكون جسماً واحداً في بعض الحمولات الثقافية أو النزعات، فإن هناك مجموعة من العوامل المشتركة أو النوازع يمكن أن نلمسها عند مجمل الفئات لدى مجموعةٍ بشريةٍ كبيرةٍ، تعيش ضمن وطنٍ واحدٍ، وخصوصاً تحت سلطة أنظمة شمولية. فغالبًا يتأثر السلوك الفردي والجماعي بمنظوماتٍ قيميةٍ خاصة، أو للدقة أكثر، تسعى الأنظمة إلى التأثير في الرأي العام عن طريق إيجاد اتجاهات تفكيرٍ خاصة، تساهم في تشكيل النزوع والميول والثقافة. وعليه، فإن الأنماط السلوكية الجديدة والانزياحات القيمية التي صاحبت الحرب السورية، أو التي تنجم عنها، وتظهر بالتدريج، هي واحدةٌ في كل المناطق الجغرافية، ولدى كل شرائح الشعب لا فرق بين منطقةٍ مشتعلة وأخرى آمنة، بين منطقة تحت سيطرة الفصائل المعارضة أو المسلحة ومنطقة تحت سيطرة النظام، فسكان هذه المناطق مجتمعة ينتمون إلى شعبٍ حكمته الأنظمة ذاتها عقوداً، بحكم شمولي رسّخ ثقافة تخدم مصالحه.
من يتابع سلوك الجماعات في المناطق السورية المختلفة يلاحظ أن مجموعة من الأيديولوجيات تتحكّم بها، وتأخذ مكانة الحافز أو المولّد والدافع لها، من أيديولوجيا دينية إلى قومية إلى سياسية بتوجهاتٍ مختلفة، يجمع بين هذه الأيديولوجيات النزعة العنصرية التعصبية المدمّرة، إن كان على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي، وليس الواقع المهلهل الذي أماطت عنه اللثام هذه الحرب غير دليل دامغ على الخواء الفكري الذي أحدثته تلك الفترات من الجمود ومصادرة الفكر وتعميم فكرٍ شمولي، ومن الخواء الوجداني الذي جعل من التعصّب الأعمى يقضي على مشاعر الرحمة والتعاطف، عدا عن إهمال الانتماء الوطني، مع ملاحظة أن مفهوم الوطن والانتماء لم يكن متبلوراً بشكله الدقيق لدى الأغلبية، إذ اندمج مفهوم الوطن مع الدولة مع النظام، حتى صار نظام الحكم هو المعنى الشامل، وهو معنى الوطن، يستولد الموالاة العمياء أو المعارضة الشرسة غير الناضجة الأشد عماءً ربما.
وإذا كان، في السابق، لبعض القادة أو الزعماء تأثير كبير ومباشر على المجتمع، أو على
الجمهور بشكل عام، مثل هتلر أو موسوليني أو غاندي أو جمال عبد الناصر أو غيرهم من القادة الذين يذكرهم التاريخ، وتركوا أثرهم الكبير فيه، فإن العصر الحالي، والحروب الحالية، يقدّم أكثر من الأسماء والرموز والزعماء، من دون إغفال أدوارهم التي لا زالت مؤثرة، كأسامة بن لادن، أو أيمن الظواهري، أو أبو محمد الجولاني، أو أبو بكر البغدادي، عدا عن الزعماء السياسيين، مثل فلاديمير بوتين أو رجب أردوغان، أو حسن نصر الله كزعيم سياسي ديني. ويقدم هذا العصر الرقمي، بوسائطه المتعددة، سلطة الإعلام المؤثرة جداً في وعي الجماعات وسلوكها وأهدافها، ولا يخفى التأثير الذي لعبته في إثارة النعرات والعصبيات.
المهم، في البداية، هو صنع الاتجاه، أي ترسيخ قاعدة البيانات التي يُبنى عليها السلوك والمواقف، وهذا كان راسخاً، في جزءٍ منه، أتت السنوات الخمس الدامية، فكرّسته وخلّقته بطريقةٍ مؤثرة. فهناك الوطني بالكامل، بحسب مبادئ الوطنية السابقة التي تربت عليها الأجيال تحت خيمة "البعث" والشعارات القومية والعداء لإسرائيل وأميركا، يمثل هذا الموقف الوطني الولاء المطلق للنظام، ومن يقف معه باعتباره يقف مع القضايا المحقة ضدّ المؤامرة التي تستهدف النيل من الوطن، أي النظام، والتي ترعاها وتمولها الأطراف الأخرى، فأصبحت روسيا وإيران جزءاً من المشروع الوطني، والعرفانُ لهما أو الدفاع عنهما دفاع عن الوطن. وبالتالي، الفريق المخالف خائن يخدم المؤامرة التي تسعى إلى تفتيت الوطن بقلب نظام الحكم، وكل من يدعم هذا الفريق هو عدونا، باعتباره عدو الوطن. نسي الفريقان تماماً أن هناك شعباً كانت لديه مبرّرات الاحتجاج والثورة.
لم يتوقف الأمر هنا، بل عملت الطائفية التي تغوّلت، بمباركة كل القوى الضالعة بالحرب ودعمها، لا فرق بين من يدعم النظام أو من يدعم المعارضة أو الفصائل المسلحة، إلى تمثُّل موقف الطرف الداعم تمثُّلاً طائفياً، حتى لو لم يكن بشكل صريح، بل إن الميول هي التي صنعت المواقف بين مؤيد لروسيا وإيران مثلاً، ورافض لهما، وبين مؤيد لتركيا والسعودية ورافض لهما، ولم تُستثنَ أميركا بسياستها الرمادية، في أكثر الأحيان من صياغة موقف كهذا تجاهها، من التعابير الرائجة مثلاً أبو علي بوتين، وأبو حسين أوباما.
تجلّت العنصرية بصورةٍ مؤلمةٍ، من خلال انعدام الرحمة بين أبناء الشعب السوري، فلم تعد
المجازر التي ترتكب بحق المدنيين، وجلّهم من الأطفال، تثير استهجان شريحةٍ لا بأس بها منهم، بحجة أنهم داعمون للإرهاب، أو بيئة حاضنة، أو أدوات للمؤامرة، أو من مؤيدي أردوغان وسياسته الطامعة بسورية واستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، والذي يسعى إلى حماية الإسلام السنّي فقط. وفي المقابل، لم يكن هناك استنكار للمجازر التي وقعت في مناطق سيطرة النظام، باعتبارهم بيئةً داعمةً لإجرامه، وباعتبارهم من طائفته، ومؤيدين لإيران الشيعية عند شريحةٍ لا بأس بها أيضاً، مثلما سمّى الطرفان ضحايا الطرف المقابل "فطائس"، نازعاً حتى عن جثثه السمة الإنسانية. كما أن العنصرية القومية لم تبخل الحرب في تأجيجها، بعدما كانت مغطّاةً بركامٍ من الشعارات الفارغة، وظهرت التناقضات المريعة بين القوميات السورية المختلفة، خصوصاً الكرد والعرب.
هذا بالخطوط العريضة، أما المستوى الأكثر انخفاضاً فهو ما يُلمس في المناطق التي يختلط فيها السوريون بين مُهجَّر وساكن أصلي، فحتى لو كانت الحياة تسير بمنطق ونواظم خفيّة إلى اليوم، لا يمكن ألاّ تلفت النظر بعض السلوكيات العنصرية المبطّنة، يمكن، أحياناً، للأطفال التعبير عنها بشكل واضح على رأي المثل: خذوا أسرارها من صغارها. كأن يعبر التلميذ في مرحلة الروضة أو الصفوف الأولى عن عدم رغبته في الجلوس بجانب حلبي أو رقّاوي أو حموي أو غيره.
من ناحية أخرى، الانزياحات الأخلاقية متشابهة أيضاً في كل مناطق الصراع، إذ كثيراً ما نسمع ونقرأ ونشاهد على صفحات التواصل الاجتماعي عن سطو الفصائل المسيطرة في أماكن سيطرتها على أملاك الناس، أو استغلال أطفالهم أو نسائهم بسند القوة، مثلما هو سلوك التشبيح والتعفيش في مناطق النظام.
هذا غيض من فيضِ ما أفرزته هذه الحرب المدمرة والأزمة السورية الإشكالية، التي لا تدلّ فقط على الخواء الفكري والروحي الناجم عن عقود الاستبداد، بل على روحٍ جمعيةٍ، ما زالت تعيش بغريزة القطيع الذي يبحث عن زعيم أو قائد أو جهة تشرح وتفسر له ما يحدث، ليتلقى ما تقدمه بوصفه بديهياتٍ ومسلماتٍ، تُبنى عليها ردود أفعاله، وينسى تحت ضغط العصبية المواعظ والقيم التي كان من المفترض أنها تميّزه.