الملحمة الكبرى وتحرير المدينة

الملحمة الكبرى وتحرير المدينة

01 نوفمبر 2016
+ الخط -
شكّل الاتفاق على إخراج عناصر "فتح الشام" موضوعَ إجماعٍ تركي سعودي أميركي روسي، مقابل ذلك يتم إيقاف الدمار عن حلب، والاعتراف بوجود المعارضة، والبدء بإيصال المساعدات، وهو ما عادت روسيا عنه، وكان سبباً في إيقاف أميركا التنسيق معها؛ لكن النظام وإيران يريدان استعادة سورية بأكملها، وهذا ما ساهم بتعطيل الاتفاق المذكور. روسيا التي تعلم ضعف النظام وإيران وعدم قدرتهما، بل وهي ذاتها، على استعادة حلب وكل سورية، ما زالت وعلى الرغم من اقتراب منطقها من منطق النظام في أن كل الخارجين عنه إرهابيون، ما زالت تُعطي للحل السياسي دوراً أساسياً؛ فهي تعلم حجم التدخل الدولي والإقليمي في الحرب ضد الثورة السورية، وتخشى من تصاعد الخلافات الدولية مع أوروبا والتورّط المستنقعي في سورية. وبالتالي، لا بد أن تُؤخذ مصالح الدول المتدخلة في سورية بالاعتبار، عدا أن روسيا نفسها ليس من مصلحتها أن تعود سورية إلى ما قبل 2011، حيث كان دورها محدوداً قياساً بإيران، وكانت توجهات النظام نفسه نحو تعزيز العلاقات مع أميركا. في هذا نرفض رأياً شائعاً وكأنه مسلمة: إن علاقات روسيا بسورية كانت قويةً، وتضاعفت بعد 2011. وهذا خطأ! فسورية كانت منفتحة نحو تركيا، وتطلب من الأخيرة بناء علاقات لها مع إسرائيل وأميركا، ولا سيما بعد إخراج جيشها من لبنان 2005.
لم يكن أمام الفصائل في أحياء حلب الشرقية، وقد شعرت بأن إيران والنظام يُجهِّزان لمعركةٍ كبرى، إلا البدء بمعركة كبرى أيضاً سُميت "ملحمة حلب الكبرى"، وهم يحرزون انتصارات قوية على قوات النظام وإيران. روسيا تتمهل في الرد الجوي، ويبدو أنها تريد تلقين النظام وإيران الدرس نفسه مجدّداً، ألا وهو أنها هي بالذات من تضع خطط الحرب والسلم في سورية، وحالما تخسر قواتهما أكثر فأكثر سيذعنان مجدّداً ويطلبان النجدة، وسيكون هناك دمار كبير وخطير، ليس في أحياء حلب الشرقية، بل وكذلك الغربية. نقول الغربية هنا، لأن الفصائل
المقاتلة هناك أصبحت بوضعية خطيرة، إما أن تفك الحصار عبر التقدّم نحو الغربية، وشلّ حركة الطيران الروسي خصوصاً، وإحداث أكبر ضرر فيها. وبالتالي، إجبار النظام وإيران وروسيا على البحث عن هدنةٍ حقيقية، وربما اعتراف جدي بوجود المعارضة، والإقلاع عن رؤية النظام بتحرير المدينة، كما قال وزير خارجيته، وليد المعلم، في الاجتماع الوزاري في روسيا قبل أيام، أي أن الفصائل تعي جيداً أن سحقاً قادماً سينالها لو بقيت صامتة.
لا شك أن معركة حلب الكبرى ليست من عمل الفصائل نفسها؛ هي مدعومة من تركيا والسعودية وربما أميركا، والقصد إنهاء أحلام النظام وإيران بالتحديد بتحرير المدينة، كما قال المعلم. إذاً هناك إجماع دولي وإقليمي أن حلب ستظل كما هي مع تغيّر طفيفٍ في الأماكن التي يسيطر عليها كل طرف. ولكن، لن يُسمح بانتصار أي طرف على الآخر. وبالتالي، سيكون هناك تصعيد كبير من الجانبين، وسيُفك الحصار جزيئاً، ولكن ستتوقف المعارك لاحقاً، وسيكون هناك اعتراف بالفصائل في الشرقية وبمجلسها المحلي، وربما هذا ما سيهيئ لهدنةٍ دائمة، وبداية مفاوضات جدية للحل السياسي. وما قاله الوزراء المجتمعون في روسيا، أي وزراء الخارجية، الروسي والإيراني والسوري، بخصوص الذهاب نحو المفاوضات، يأتي بهذا السياق.
ليس في التوازنات الدولية السابقة في سورية تغييرٌ كبير؛ فسيستمر التنسيق التركي الروسي بمحيط حلب خصوصاً، وسيكون للأتراك دورٌ أساسيٌ في معركة الرقة لاحقاً، وسيشعر زعيم الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، بالخذلان أكثر فأكثر، فقواته ستخرج من منبج، وسيحاول التمسك ببعض مما أحرزته قواته شرقي الفرات، وربما حتى هذه لن تظلّ تحت سيطرته، وغالباً لن يُسمح له بالمشاركة في معركة الرقة. وأما أميركا فسيظل تركيزها على داعش، وستتوضح سياساتها أكثر، بعد نتائج الانتخابات، وقد تدفع إلى حل سياسي جديّ حينها في سورية والعراق. وستشكل المعارك ضد داعش في الرقة مرحلة جديدة في التنسيق بين الأميركان والأتراك والروس، وهذا سيتطلب قوات عربية سورية، وتشير الاحتمالات إلى أن تكون قوات من الفصائل المقاتلة، وليست من قوات النظام. الجديد هذا، والذي يُعلن عنه تباعاً، أي معركة تحرير الرقة مع تحرير الموصل وبعده، وتطور الأوضاع في حلب، وشعور الروس بأنه يستحيل استعادة هذه المدينة، ونضيف هناك إرسال الأسطول البحري الروسي إلى سورية، كلها عناصر تدفع بالبحث عن حل سياسي. وستكون معادلة هذا الأمر ثلاث مسائل: إنهاء داعش، وتهميش حركة فتح الشام، وتحديد مصير الشخصيات الأساسية في النظام السوري.
وإذا كانت مسألة داعش لا نقاش فيها، ولا يلغي تأخر الحسم ضدها أنها قضية موضوعة على
طاولة البحث في الأشهر المقبلة، فإن مسألة جبهة فتح الشام، جبهة النصرة سابقاً، هي الأعقد من دون شك، وعلى الرغم من توفر معطيات أولية تقول إن شقاقاً سيتصاعد بينها وبين "أحرار الشام"، حيث تشارك الأخيرة في درع الفرات التي رفضتها جبهة الفتح، فإن تصاعد الضرب ضدها في إدلب في مرحلة لاحقة، سيضعها في "خانة اليك"، أي عليها أن تحل نفسها أو تسلم السيطرة إلى "أحرار الشام" وتنزوي، وهناك أيضاً السحق. يضاف إلى هذه القضية موضوع الشخصيات الأساسية، وأيضاً تشكل معركة حلب ضد النظام نقلةً نوعيةً في حسم قضية إقصائهم عن السلطة في إطار الحل السياسي.
تضخيم دور روسيا، وأنها تبتزُّ أميركا وتريد فرض هيمنتها دولياً عبر الصراع على سورية، كلام صحيح، لكنه يصبح خاطئاً، حينما يتم تصوير روسيا كأنها تفرض خياراتها على أميركا، أو أنها فعلاً قادرة على إملاء الفراغ الأميركي في منطقتنا. وبالتالي، لا يوجد خيار روسي متفرد في سورية، وهناك خيار أميركي داعم للروس فيها، وهو ما سيعيد الصلات بين روسيا وأميركا في مرحلة لاحقةٍ بخصوص سورية، وكذلك بخصوص كل المسائل الدولية، فالدولتان تحتاجان بعضهما في مواجهة الصين.
إذاً ليست معارك التحرير الكثيرة، وكذلك الملاحم، سورية، ويُمنع أن تكون مستقلة. هي معارك لتدوير الزوايا والضغط السياسي بين الدول نفسها، لإيصال الوضع السوري نحو حلٍّ، تتحكم فيه روسيا بالتوافق مع أميركا وإسرائيل. ولكن، تتهمش فيه كل الدول المُوغلة في سورية، بدايةً من إيران، وليس نهايةً بالمملكة العربية السعودية.