عن الجبهة الداخلية وشروخها

عن الجبهة الداخلية وشروخها

30 أكتوبر 2016
+ الخط -
عندما يخوض بلدٌ ما حرباً ما ضد عدوٍّ ما، من الطبيعي أن يكون هناك حشد معنوي للشعب، ولجميع مكونات المجتمع وجميع القوى السياسية، من أجل الالتفاف حول القيادة، وأن يكون الجميع على قلب رجل واحد ضد أعداء الوطن، أي وطن، وأي عدو، فوجود خلافاتٍ أو انشقاقاتٍ في الجبهة الداخلية للوطن هو الأخطر، وهو بداية الهزيمة، فالشروخ تتسع، خصوصاً لو كان هناك ضغط وزيادة في الأحمال، فما بالك لو كانت الظروف المحيطة غير طبيعية.
والحكيم هو من يبدأ في سد الشروخ، وتقليل الخلافات، وتوحيد الجبهة الداخلية ضد العدو. الكبير هو من يتنازل ويحتوي الصغير، ولا ينتقص ذلك من كرامته. والقوي هو الذي يبدأ باحتواء الطرف الأضعف، ووقف الخلاف، ولا ينتقص ذلك من مكانته وقوته. الذكاء هو اقتراب الخطوات، وتقليل الفجوات، وتقديم تنازلات من جميع الأطراف، حتى تتحقق المصلحة للجميع، فالطبيعي هو وجود اختلافٍ، لكن الحماقة هي الإصرار على الصراع إلى ما لا نهاية.
وأتذكّر في عام حكم محمد مرسي أنهم كانوا يكرّرون عبارة الاصطفاف الوطني، ومع الوقت اتضح أنهم يقصدون أن يصطف الجميع حولهم بدون جدال أو نقاش. ولذلك، كانت مناسبات الحوار المجتمعي مجرد ديكور ومضيعة للوقت، ثم فوجئ الجميع بتمرير رأي الجماعة وقرارها، بعد سلسلة اجتماعات لاستهلاك الوقت.
والآن، في وقت الأزمة، نسمع عبارات مماثلة، مثل الاصطفاف الوطني، وتوحيد الجبهة الداخلية والالتفاف حول الزعيم، وهو كلام قد يكون فيه بعض القبول إذا كان في ظرفٍ مختلف، وإن كانوا يقصدون المعنى الحقيقي.
نسمع الآن خطاباتٍ عاطفية. ولكن، لا تمت للواقع بأي صلة. نسمع عباراتٍ في الخطابات العاطفية عن التسامح والتعايش، في وقتٍ نرى فيه أقسى أنواع التنكيل والاغتيال المعنوي لكل من يختلف أو يعترض، ونسمع عباراتٍ عن مشاركة الشباب، في وقتٍ نرى فيه مزيداً من الأحكام المغلظة ضد مجموعاتٍ من الشباب، بسبب المشاركة في مظاهراتٍ بسيطةٍ، لم ينتج عنها أي أضرار، وأحياناً تكون الأحكام المغلظة لمجرد التفكير في المشاركة.
إنها كالعادة المفاهيم المزدوجة، فمصطلح الأمن القومي الذي يُثار، طوال الوقت، بسبب وبدون سبب، كالسيف في وجه كل من يعبر عن رأيه، مقصود به أمن القوم الذين في السلطة، وليس أمن الوطن، كما قد يعتقد بعضهم، وكذلك مفهوم أمن الدولة الذي اتضح أن المقصود به هو أمن دولة الفساد والاستبداد.
عن أي اصطفافٍ أو توحيد جبهةٍ يتحدثون، وهم من يعملون بكل كد وجهد، لتوسيع الشرخ كل
يوم، وقتل أي فرص للحوار أو السلام الداخلي. والآن، يستنكرون الأسلوب الساخر أو الفج، من وجهه نظرهم، للشباب على الإنترنت ومواقع التواصل، على الرغم من أنهم أول من يعلم أن هذا الشباب قد انسد أمامه أي طريقٍ للتعبير عن الرأي، أو المشاركة السياسية الحقيقية، سوى البرنامج الرئاسي بالطبع الذي لا يختلف كثيراً عن منظمات الطلائع والشباب في حزبٍ فاشي، فالجميع في مصر والعالم يدرك، منذ أول لحظة، أن ما يطلق عليه برنامج رئاسي لتأهيل الشباب، أو ما يطلق عليه مؤتمر الشباب، ما هو إلا تجمع من أجل التطبيل والتأييد للزعيم الملهم.
هناك مثل مصري شعبي معروف يقول "حبيبك اللي يحبك يبلع لك الزلط، واللي يكرهك يتمنى لك الغلط". ويفسر هذا المثل كثيرا من الحالة الجنونية التي تمر بها مصر الآن، فمن يوالِ السلطة يبالغْ في الولاء والتأييد والتطبيل، بمناسبةٍ وبدون مناسبة، وكثيراً بسبب المبالغة في التطبيل والنفاق يورِّطون رأس السلطة في مشكلاتٍ جديدة، كالدبة التي قتلت صاحبها.
وهناك أيضا حالة مبالغة لدى بعض الرافضين، سواء الرافضين للمسار السياسي برمته منذ البداية، أو المختلفين مع بعض التفصيلات في الأداء وطريقة الإدارة. ولكن، ماذا تتوقع من ابنٍ يلاقي الذل والهوان عند كل زيارة لأبيه المحبوس على ذمة قضيةٍ ليس له أدنى علاقة بها من قريب أو بعيد. وماذا تتوقع من شاب شاهد بعينيه وحشيةً مهينةً لصديقةٍ بسبب مشاركته في مظاهرة، أو زوجة لا تجد قوت يومها، أو يعاني أطفالها من الجوع والحرمان، لأن الزوج محبوسٌ لمجرد الاشتباه على ذمة قضية تظاهر، ليس له فيها لا ناقة ولا جمل. ماذا عن أم أو أب أو أخ أو أخت أو زوجة أو ابن لشخصٍ ما ليس له علاقة بالسياسة، ولكن قاده القدر إلى أن يوجد بالقرب من مظاهرة ما، استخدمت الشرطة فيها الرصاص الحي والخرطوش، لتفريق المتظاهرين، أو ماذا تتوقع من أهل وأصدقاء ومعارف لشاب صغير لم يتعد عمره 25 عاماً، وقد حكم عليه بالسجن 10 سنوات، لأنه شارك في مظاهرةٍ سلميةٍ تنتقد أداء رئيس الجمهورية، أو من أهل وأصدقاء وأقارب من حُكم عليه بالسجن المؤبد للسبب نفسه.
لا تتوقع ممن ذاق الذل والهوان على يدك أن يتعاطف معك وقت محنتك. وهذا للأسف السبب
الذي يجعل التنظيمات المتطرّفة العنيفة تستطيع بسهولةٍ تجنيد عناصر جديدة، تعرّضت لظلم من قبل، أو تعرّض أحد ذويهم للتنكيل لسببٍ ما، وهذا ما يفسر زيادة أعداد المنضمين لداعش في سيناء، والمتعاطفين معهم من بين أبناء سيناء الذين تعرّضوا للظلم في أثناء تطبيق الإجراءات الاستثنائية، أو من أبناء الوادي لأسباب مشابهة.
وعندما تعلم أن الأجهزة الأمنية المصرية تعتبر أن الحركات الشبابية أو الثورية المرتبطة بثورة 25 يناير، وكذلك أي مجموعات أخرى تنادي بالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، مجموعات إرهابية تُعامَل معاملة التنظيمات المسلحة، على الرغم من انتهاجها منهج الاحتجاج السلمي، فالسلطات في مصر تعتبر أنه لا فارق كبير بين التظاهر السلمي والإرهاب، أو بين تفجير كمينٍ في سيناء وتفجير عبارة ساخرة تنتقد النظام على الإنترنت، وهذا هو الخطر الحقيقي الذي لا يجعل لكلماتٍ، مثل الاصطفاف الوطني، أي معنى.
نعم، لن ننتصر في الحرب على الإرهاب بدون تقوية الجبهة الداخلية. ولكن، لكي تقوّي وتدعم الجبهة الداخلية، لا بد أولاً أن توقف الظلم والتنكيل الذي يتعرّض له كل من يعارض أو يعبر عن رأيه بسلمية. لكي تحقق الاصطفاف الوطني، لا بد من تقليل الشروخ المجتمعية، ووقف أسباب حدوثها. وإذا أردت أن يتم توظيف طاقات الشباب في المجال السليم، فعليك بفتح المجال السياسي وتسهيل الإجراءات وتسليك انسداد القنوات القانونية للممارسة السياسية، أو التعبير عن الرأي، ففي القانون المصري مواد عديدة متراكمة تجرّم كل شيء، ويتم استخدام تلك القوانين عند الحاجة.
لا تحقق دولة الصوت الواحد والإجراءات الاستثنائية الدائمة والظالمة استقراراً، ولا اصطفافا وطنياً، والقمع والديمقراطية الصورية ربما يحققان بعض الاستقرار بعض الوقت في الظروف العادية. ولكن.. مستحيل أن يحققا أي تقدم في تلك الظروف التي نمر بها.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017