ليبيا من الصّراع إلى مشروع الدستور

ليبيا من الصّراع إلى مشروع الدستور

28 أكتوبر 2016

وزير الخارجية الليبي وكوبلر في مؤتمر فيينا (6/10/2016/الأناضول)

+ الخط -
تبدو السياسة في ليبيا بين خياراتٍ مفصلية، فدخول المؤتمر الوطني على مسار الأزمات المعقدة ليس أمراً جديداً، لكنه يعكس البدائل المفتوحة للصراع وتداعي المؤسسات، ولعل التحدّي الرئيسي هو تراجع القدرة على بناء تصور وطني شامل. ولذلك، صارت الخيارات الحالية تقع ما بين المضي في مشروع الدستور وبدء دورة جديدة من النزاعات والصراعات.

إعلان عودة المؤتمر الوطني
يمكن الإشارة إلى بيان عودة المؤتمر الوطني (15 أكتوبر/ تشرين الأول 2016)، بأنه يعكس جانباً من اختلال السلطات الانتقالية، وتزايد التوتر في طرابلس، حيث إن تكليف حكومة "الإنقاذ الوطني" (خليفة الغويل) بمزاولة مهامها وانعقادها في المقار الرسمية في طرابلس، وبشكل عام يعكس البيان رغبة المؤتمر الوطني في العودة إلى اتفاق "إعلان المبادئ" (تونس، ديسمبر/ كانون الأول 2015) مع مجلس النواب، حيث طالبت بتشكيل حكومة وحدة وطنية مع "الحكومة الانتقالية"، وهناك فرصة للتقارب بين الحكومتين، باعتبارهما مضارتين من المسار السياسي الراهن، ما يضعف فرصة استمرار اتفاق الصخيرات، ويضع ليبيا أمام ثلاث حكوماتٍ، تعاني من مشكلة المشروعية، ويفتح المجال أمام اهتزاز الأمن في طرابلس، ويمهّد للدخول في صراع مسلح يهدّد الجهات المتنازعة.
فالإعلان عن إعادة المؤتمر الوطني إلى العمل يفتح باباً جديداً للصراع، تكون بؤرته في العاصمة (طرابلس)، ما يشكل تهديداً مباشراً للاتفاق السياسي، ويساهم تباطؤ إنجاز المهام الانتقالية في تزايد احتمالات العودة إلى وضع ما قبل "الصخيرات"، وباعتباره أحد أجهزة الاتفاق الرئيسية، تلقى المجلس الأعلى للدولة ضربتين، أخيراً، كانت الأولى في تجاهل دوره مؤسسة انتقالية، وكانت الثانية الأكثر خطورة، حيث إن التفكير في عودة المؤتمر الوطني سوف يؤدي إلى تفكّك مجلس الدولة، بسبب تطابق عضوية كل منهما، وعدم تحقيق الشروط الأساسية لاتفاق الصخيرات.
ولعل ما يتسم به إطار تونس (إعلان المبادئ) هو ما يتعلق بوضوح بخريطته الانتقالية قليلة التعقيدات، والتي يتم تنفيذها عبر لجان مشتركة من المجلسين، سواء في ما يتعلق بتشكيل حكومة الوفاق أو تعديل دستور 1951، وهو وضع يخلق سلطاتٍ متوازنةً، كان من الممكن البناء عليها، لتفكيك التناقضات الكامنة في الصراع السياسي.
الملاحظة الأساسية على ملتقيات المجالس العليا لقبائل ليبيا أنها ملتقياتٌ لم تدفع باتجاه تقليل
تباين المواقف السياسية، وكان آخرها ملتقى نالوت (15 سبتمبر/ أيلول 2016)، غير أنه يمكن النظر إلى ملتقى أجخرة تحت مظلة "المجلس الأعلى للمصالحة" (14 أكتوبر) بأنه محاولة لتوطين معالجة الخلافات الليبيبة، حيث يسعى إلى تسوية النزاع بين المؤسسات السياسية.
ويقوم تصور ملتقى أجخرة على إعداد اتفاق سياسي يراعي مطالب الأطراف المختلفة، لكنه لم يطرح إطاراً لمسار المشاورات السياسية. وهنا، يصير من الممكن تزايد احتمالات ظهور تناقضاتٍ جديدةٍ، تحول دون إنجاز المشاورات المقترحة، خصوصاً في ظل تصاعد الصراع المسلح، كما أنه بالنظر إلى إعلان مبادئ تونس واتفاق الصخيرات، يبدأ مساق "أجخرة" من نقطةٍ متأخرة، ليس فقط في صعوبة التعامل مع ثلاث حكومات متنازعة. ولكن، بسبب تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية وعدم قدرة إطاري تونس والصخيرات على تحقيق تهدئة أو إيجاد فرص ديمقراطية جديدة.

تناقضات الأمم المتحدة
وعلى الرغم من رفض مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، مارتن كوبلر، اتفاق إعلان مبادئ بين مجلس النواب والمؤتمر الوطني الذي صدر في تونس (ديسمبر 2015)، لم تستطع الأمم المتحدة توفير الحماية الكافية لاتفاق الصخيرات. وهنا، يمكن الإشارة إلى جانب من التناقضات في السياسة الأممية، فعلى الرغم من رفض مخرجات "تونس"، فإنها قبلت بالتعامل مع رئاسة مجلس النواب، وهو ما يثير الجدل حول نضج تصوّرها للتصدي للأزمة الليبية، ويشكك في قدرتها على دعم الحل السياسي، فالمشكلة التي واجهت البعثة الأممية تمثلت في حيرتها إزاء الجدل بشأن إنجاز حكومة التوافق السياسي، وانهيار الجدول الزمني للاتفاق السياسي، وهنا يصبح من الضروري الانتقال إلى وضعٍ جديد، يراعي التغيّرات التي حدثت خلال الأشهر الماضية.
ولم يكن مفهوماً سعي الأمم المتحدة إلى تشكيل مجلسين تشريعيين في الاتفاق السياسي، ولم تتجه إلى دمجهما في مجلس واحد، لأجل تفكيك الانقسامات، كما لم يكن مفهوماً أيضاً، تشكيل مجلس الدولة من 134 عضواً من المؤتمر الوطني من إجمالي 200 عضو، ويسبّب هذا الوضع صراعاً داخلياً، بسبب استبعاد بعض الأعضاء، وبشكلٍ يؤدي إلى تجزيء جهة تشريعية مهمة، كما يضعها في سياقٍ غير متوزان مع مجلس النواب، وتعد هذه الجزئية من العوامل التي قادت الانقسام في كل مؤسسات الدولة.
وما يفاقم المشكلة، أنه على الرغم من اقتراب نهاية الفترة الانتقالية الأولى، لم يتحوّل المجلس الرئاسي إلى مؤسسة دستورية، وأنه يفتقر للأذرع التنفيذية والحاضنة الاجتماعية، وهي سمات تنطبق على الكيانات الأخرى. وتعكس هذه الجزئية مدى التفكك والتدهور السياسي الذي لحق بالفترة الانتقالية، حيث كان من المفترض أن يضطلع "الرئاسي" بمهام القاطرة السياسية، لكنه على العكس، كما غيره من المؤسسات، صار جزءًا من المشكلات السياسية. وبالتالي، تراجعت أي قيمة يمكن أن يضفيها اتفاق الصخيرات، فمن جهةٍ صارت شرعية استمراره متوقفةً على قرار مجلس النواب. ومن جهة أخرى، يساهم تنامي النزاعات والصراع المسلح في منع مقومات الحل السياسي وكبحها.

مشروع الدستور الليبي
وفي ظل الاختناقات السياسية والدستورية، توصلت الهيئة التأسيسية إلى مسودة الدستور العتيد في 19 إبريل/ نيسان 2016. ويمكن القول إنها تضمنت مزايا دستورية عديدة، لكنها في
الوقت نفسه لم تخل من العيوب الدستورية التي تشهدها الدول النامية، والتي تعكس مستوى التطور الديمقراطي. وأشار المشروع إلى تكوين السلطة التشريعية (مجلس الشورى) من مجلسين؛ مجلسي النواب والشيوخ، ووفق المادة 87، أشار مشروع الدستور إلى أنه لم يسبق حمل جنسية أخرى للمرشح لعضوية مجلس النواب، كما نصت المادة 110 على شرط عدم حصول المرشح لرئاسة الجمهورية على جنسيةٍ أخرى. وكانت هذه المسألة نقطة خلافية داخل الهيئة التأسيسية. وبهذه الصيغة، صارت تشكل مبدأ عاماً لكل المناصب الأخرى.
وبينما سكت المشروع عن تحديد عدد أعضاء مجلس النواب، فإنه حدّد أعضاء مجلس الشيوخ بـ72 عضواً (مادة 85)، يتم تقسيمهم على مناطق ليبيا بالتساوي، وهو ما يتطابق مع فلسفة النظم ثنائية الغرفتين، بحيث تعمل الغرفة الثانية على قاعدة التمثيل المتساوي، بغض النظر عن المعايير الانتخابية التقليدية؛ مثل عدد السكان بالنسبة للدوائر.
وكانت أغلب مطالب المعترضين على المسودة تدور حول المبادئ العامة للدستور، وبالنظر لأبواب مشروع الدستور، تتضح المبادئ المتعلقة بالمواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، وهي أبواب صارت تقليدية في الدساتير المعاصرة، وقد زاد المشروح في احترام خصوصية المكونات الثقافية. وعلى أية حال، ورود هذه المبادئ يمكن أن يساعد في تضييق مساحة الخلاف بين الأطراف الليبية، فالمادة 2 تقرّر أن اللغة العربية هي الرسمية، كما أن المادة 64 تدعم الحقوق اللغوية للمكونات الثقافية.

توزيع السلطة
وفي ما يتعلق بتوزيع السلطة، اتبع المشروع طريقتين، كانت الأولى في نقل المؤسسات الرئيسية إلى ثلاث مدن، فبينما تعتبر طرابلس العاصمة السياسية (المادة 3)، وفيها مقر السلطة التنفيذية، فقد حدّد أن مقر مجلس الشورى في مدينة بنغازي (المادة 101)، وحسب المادة 147 يكون مقر المحكمة الدستورية في مدينة سبها. وتعد هذه الصيغة تطويراً لمقرّرات لجنة فبراير/ شباط (2013)، ويعكس هذا المدخل في توزيع السلطة جانباً من الخلاف بين أعضاء التأسيسية، باعتباره إضعافاً لتماسك الدولة، وهناك تركيز على أن الخلاف ينصبّ على تشوه إجراءات صياغة مشروع الدستور، كما أنه، من وجهة أخرى، تعكس الآثار الجيوسياسية حالة من انقسام السلطات بشكلٍ يضعف قدرات الدولة، ويفتح الباب أمام استمرار المشكلات والأزمات السياسية، وهي بمثابة تمهيد للفيدرالية.
لكنه، حسب نص المشروع، أشار إلى نظام اللامركزية المحلية (المواد 154 – 164)، بشكل يمنح المحافظات والبلديات مساحةً استقلاليةً مالية وإدارية واسعة، مع خفض تدخل السلطة المركزية، وأشار (المشروع) إلى نقطة مهمة، تمثلت في إقرار نصيبٍ من الدخل القومي للمحافظات والبلديات، ويمكن أن تكون مقدمةً لمعالجة مشكلة توزيع الثروة بشكل يضمن وحدة الدولة وتهدئة النزاع على الثروة.
وتضمن المشروع ازدواج النظام القضائي، فإلى جانب القضاء العادي، نصت المادة 145 على وجود القضاء العسكري، وتخصيصه بقضايا العسكريين، وهو ما يضعف السلطات المدنية في الرقابة على الجيش.
لكنه، على الرغم من التوجهات الإيجابية في مشروع الدستور، لم تتضح الفلسفة وراء تفاوت المدة الدستورية للسلطتين؛ التشريعية والتنفيذية، فبينما هي أربع سنوات لمجلس الشورى، كانت مدة رئاسة الدولة خمس سنوات. وبالنظر إلى وجود سلطةٍ للرئيس في تحريك دعوى حل البرلمان، فإن اختلاف المدى الزمني يمكن أن يشكل مدخلاً لإطاحة السلطة التشريعية أو إضعاف سلطتها.
ويمكن النظر إلى المادتين 121 و122 على أنهما من المواد المقلقة في مشروع الدستور، حيث إنهما تفتحان باب الصراع والتنازع بين سلطات الدولة، وخصوصاً مع إدخال السلطة القضائية في النزاع السياسي، حيث تمنحان السلطتين التنفيذية والتشريعية حق تحريك دعوى الحل أمام المحكمة العليا، ووضع شروط تقديرية، مثل "تهديد مشروع التنمية وإرباك سياسة الدولة". وفي ظل الصراعات الحالية، يصير مرجحاً تنامي الصراع في ما بين السلطات، وكان من الأولى السكوت عن سلطة الرئيس في حل السلطة التشريعية، والعمل على تعزيز سلطاته.

النزاع القضائي حول الدستور
وعلى الرغم من الجوانب الإيجابية في مشروع الدستور، ثار نزاع قانوني حول طريقة
صياغته، وخصوصاً ما يتعلق بنصاب التصويت عليه، وتكوين "لجنة العمل"، حيث اتجه بعض أعضاء "الهيئة التأسيسية" إلى تحريك دعوى لإبطال الجلسة المنعقدة في 19/4/2016، حيث صدر حكم إداري من محكمة البيضاء بوقف التصويت على مشروع الدستور.
ولم يقتصر الخلاف على توفر النصاب، لكنه دار بشأن مدى قانونية الرقابة القضائية على أعمال الهيئات التأسيسية، باعتبارها سلطة سيادية مستقلة. وعلى الرغم من أهمية هذا الجدل في تقرير طريقة الوصول إلى مشروع الدستور، فإن الأمر الأكثر أهمية أن "الهيئة"، مثل غيرها من المؤسسات، تجاوزت مددها الدستورية. وهنا تبدو ضرورة البحث عن صيغةٍ توافقية للخروج من أزمة مشروع الدستور. ويمكن الاستفادة، هنا، من فتح محضر الجلسة لتوقيع الأعضاء المتغيبين عن الجلسة، أو التوافق على جلسةٍ أخرى لمعالجة الخلافات في هذه المسودة حلاً بديلاً عن مناقشة اتفاق سياسي جديد، تكون مهمته إطالة مدى الفترة الانتقالية.
وفي ظل هذا المناخ، لم تشر تعليقات الجهات السياسية في ليبيا إلى ملامح تصور للخروج من الأزمات، وصارت التصريحات تعكس صيغاً أقرب إلى التموضع خلف المواقف السابقة والحيرة أمام المستقبل. وهنا يمكن القول إنه على الرغم من الجدل حول مشروع الدستور، فإنه يعد الحل الملائم للخروج من الدائرة المفرغة، فالبدائل الأخرى تميل إلى إدامة العنف وتفكيك الدولة والنسيج الاجتماعي، وباعتبار المسودة من الصيغ الدستورية المرنة (المادة 217)، يبدو المشروع المقترح أرضيةً ملائمة للخروج من الأزمة الحالية والدخول في مرحلة جديدة.
ونظراً لاتساع التأثير الخارجي، فإن من الصعوبة تجاهل مصالح الأطراف الإقليمية والدولية تجاه ليبيا، ولا يعني هذا أن تتحول المصالح إلى التدخل لأجل تقرير مصير السياسة الليبية، لكن يمكن استثمارها في تهيئة البيئة الداخلية وبناء المؤسسات.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .