فصل المنهجية الديمقراطية في المغرب

فصل المنهجية الديمقراطية في المغرب

28 أكتوبر 2016
+ الخط -
سواءً في هواجس الفقهاء الدستوريين المغاربة، أو داخل نقاش صالونات السياسيين، أو تحاليل الصحافة، فإن الإشكالات التي قد يثيرها تطبيق الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور ظلت دائماً واردة. ذلك أن هذه الفقرة التي تنص على أنه "يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدّر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها"، بالقدر الذي قرأت دسترةً للمنهجية الديمقراطية، بالقدر نفسه الذي ظلت تحيل إلى بعض البياضات الممكنة، خصوصاً في ما يتعلق بعدم الحسم في مسألة التعيين الحصري للأمين العام للحزب، فضلاً عن صمتها عن احتمالات فشل رئيس الحكومة المكلف ببناء أغلبيته البرلمانية.
في المعجم السياسي المغربي، يعود مفهوم المنهجية الديمقراطية إلى العام 2002، عندما مرّت أول انتخابات تشريعية في عهد الملك محمد السادس، وعلى الرغم من حصول الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على المرتبة الأولى، فان الملك لم يجدّد الثقة في زعيمه، عبد الرحمن اليوسفي، الذي قاد تجربة التناوب التوافقي سنة 1998، مفضلاً اختيار وزيرٍ أول تكنوقراطي من خارج الأحزاب، وهو ما سيعتبره بيان شهير للمكتب السياسي للحزب المذكور خروجاً عن المنهجية الديمقراطية.
لم يكن في الدستور المغربي ما يمنع الملك من تعيين وزير أول غير حزبي، على الرغم من أن القليل من المنطق السياسي يفترض أن تقود الحكومة شخصية حزبية، ما دام أن الأخيرة ستكون في حاجة إلى الاستناد على أغلبية برلمانية في مجلس النواب.
في الخلفية السياسية دائماً، شكّل الفصل 47 تقدماً استراتيجياً في ربط جزء من السلطة بصناديق الاقتراع، وبالتالي في مسار التأويل البرلماني للنظام السياسي، ذلك أن الخطاب الملكي في 9 مارس/ آذار 2011 تحدّث في المرتكز الرابع للإصلاحات المعلنة في سياق الربيع
العربي عن (الحكومة المنتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع)، قبل أن يتحدّث خطاب 17 يونيو/ حزيران 2011، عن "تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات، كتجسيد لانبثاق الحكومة عن الاقتراع العام المباشر". أما عن علاقة هذا المقتضى الدستوري بالحوار العمومي الواسع الذي انطلق في ربيع 2011، فإن الصيغة التي جاء بها هذا الفصل تبقى أقرب إلى ما اقترحته أحزاب العدالة والتنمية، الاستقلال، التقدم والاشتراكية، على عكس ما ورد من تدقيقات تهم المسطرة والآجال. وتتوقع حالات عدم توفق رئيس الحكومة المكلف، من أحزاب الأصالة والمعاصرة، التجمع الوطني للأحرار، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والاتحاد الدستوري.
مطالبة الحزب الذي حلّ ثانياً في اقتراع 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، الأصالة والمعاصرة، اليوم، بتعديلٍ دستوري يهم هذا الفصل، انطلاقاً من استباق أزمةٍ لم تحدث بعد، تحيل، في توقيتها، إلى بعض عناصر غموض التقدير السياسي الذي يحكم هذا الموقف، وتطرح عودة وإحياء صيغة المذكرة المرفوعة إلى الملك، كحامل "قديم " للمطالب الدستورية. لكن، في سياق مختلف، سواء من حيث فردية المبادرة السياسية، ومن حيث مضمونها الجزئي (الميكرو دستوري)، أو من حيث انفلاتها من السياق العام الذي ظل يؤطر سياسة المذكرات، والمرتبط أساساً بوجود حالة إصلاح عامة.
لا تنتبه العودة إلى صيغة "المذكّرة" إلى أن سياق 2011 أحدث انقلاباً في معادلة الإصلاح الدستوري، والتي لم تعد رهينة للحوارية الثنائية بين الملكية والأحزاب، بقدر ما تحولت إلى قضية مجتمعية، تتطلب سقفاً من التعبئة العامة. وهي المطالبة كذلك التي قفزت، من جديد، على الإمكانات التأسيسية التي يمنحها الدستور للبرلمان، في مجال تعديل القانون الأسمى. مطالبة تطرح كذلك السؤال حول تقدير درجةٍ تحمل الزمن السياسي والدستوري هنا والآن، لفتح ملف الإصلاح الدستوري بآثاره المهيكلة وكلفته المؤكدة، وما إذا كان الأمر سيصبح مطلباً آنياً للتعبئة، أم مجرد تسجيل موقف سياسي؟
وإذا كان الأمر يتعلق بالفرضية الثانية، فلماذا اختيار صيغة المذكرة؟ إذ كان سيكفي، في هذه
الحالة، التذكير بالصيغة المقترحة من الحزب أمام لجنة المراجعة الدستورية. تحمل القاعدة القانونية بالطبيعة قدرة مزدوجة على استيعاب الواقع، وعلى التنبؤ بالمستقبل، لكنها تظل، في النهاية، عاجزة بالضرورة عن مواكبة تعقد الظاهرة الاجتماعية والسياسية وتركيبها، وهو ما يفسح المجال، بالتالي، للتأويل والأعراف والممارسة. وإذ يبقى القانون الدستوري الأقرب إلى التعبير عن الميثاق السياسي المحدّد لقواعد العملية السياسية ومرجعيات البناء المؤسساتي، فالمفترض أن رهانات تغييره لا ترتهن إلى مقتضيات التدبير التكتيكي، المرتبط بالحسابات الحزبية الخاصة، وهو الذي يعبر عن الاتجاهات العامة للمشترك الوطني.
من جهة أخرى، يوضح واقع الممارسة الدستورية المقارنة وتاريخها أن تواتر أزمات تشكيل الحكومات لا يرتبط دائماً بالعجز المعياري داخل النص الدستوري، بقدر ما يجد فرضياته التفسيرية في طبيعة المنظومة الحزبية، ومضامين القوانين الانتخابية، واتجاهات الثقافة السياسية السائدة.
لا تنفصل قراءة الفصل 47 في الدستور المغربي عن تاريخ فكرة "المنهجية الديمقراطية وسياقاتها"، وهو بالتالي نصٌّ لا يمكنه أن يقبل أي تأويل، أو حتى تعديل، يفضي به إلى ما هو ليس "منهجية ديمقراطية"، وليس "انبثاق السلطة التنفيذية من الاقتراع العام!".
2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي