قرار "اليونيسكو" ومهمة راهنة ودائمة

قرار "اليونيسكو" ومهمة راهنة ودائمة

26 أكتوبر 2016
+ الخط -
قرار المجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو)، أخيراً، في شأن مدينة القدس، وإنْ لم يكن فيه من جديد مواقف المنظمة تجاه الاحتلال الإسرائيلي للمدينة، يُضاف ويراكَم شاهداً آخر من شواهد فضح الأضاليل والمزاعم التلمودية والتوراتية التي صادقت عليها الصهيونية السياسية، وعلى أساسها قامت دولة الكيان، وزوّدت بالركائز النظرية والعملية، ليجري سلب الحق الفلسطيني من أصحابه، وارتكاب الجرائم والمذابح وحملات التطهير العرقي المستمرة، من دون أن يرفّ جفنٌ للعالم الذي ما فتئ يغمض عينيه عن الجرائم المتواصلة، وفي ظلها ترتكب جرائم تزوير تاريخانية في حق تاريخ لم يفت عليه الكثير بعد، لينسى أو ليجري نسيانه، للإفلات من جريمةٍ ستبقى تطارد أصحابها، حتى يعود الحق الفلسطيني إلى أصحابه. وستبقى شرعية القوة والحق أقوى من باطل القوة وشريعتها الباطشة العمياء. وفي النهاية، لن تخضع حقيقة الوقائع التاريخية لأباطيل المزاعم التلمودية والتوراتية، وستنتصر للحق التاريخي، غير القابل للتعديل أو المساومة.
وعلى ذلك... ففي يوم من الأيام، شهد "شاهدٌ من أهلهم"، في خطوةٍ جريئةٍ، قلّ نظيرها، على الأقل حتى الآن، فقد ذهب مقال عالم الآثار الإسرائيلي، زئيف هيرتسوج، ليؤكد "أنه بعد 70 عاماً من الحفريات المكثفة، توصل علماء الآثار إلى نتيجةٍ مخيفة: لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق، حكايات الآباء مجرّد أساطير، لم نهبط إلى مصر ولم نصعد من هناك، لم نحتل البلاد (فلسطين) ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان. الباحثون والمهتمون يعرفون هذه الحقائق منذ زمن، أما المجتمع (الإسرائيلي) فلا". وفي الاتجاه نفسه، تحمّل أستاذ الدراسات الدينية ورئيس القسم في جامعة إستيرلنج، كيث وايتلام، في مؤلفه الرائع "إختلاق إسرائيل القديمة"، مشقةً كهذه في فضح القائمين على الدراسات التوراتية والباحثين المصدّقين وجود "إسرائيل القديمة"، ولاحظ أنه "وعلى الرغم من وجود مفاهيم تاريخية قومية مهمة في البلدان الحديثة المختلفة في الشرق الأوسط، توفر فهماً مقابلاً وأساسياً للمفاهيم الغربية، وتمثلها لتاريخ المنطقة، فإن ما يلفت الانتباه غياب تاريخ فلسطيني للماضي، أي مكتوب من منظور فلسطيني".
ولهذا، يؤكد على أن الصراع حول الماضي إنما هو دائماً صراعٌ من أجل الهيمنة والسيطرة
في الحاضر. ومعه يذهب جورجي كنعان، في مؤلفاته، إلى المطابقة بين مزاعم الزعماء الصهاينة والمؤرخين التوراتيين، في تركيبهم تاريخ دولةٍ اختلقوها هي "إسرائيل القديمة".
ومن البداهة أن يكون التاريخ الذي ركّبوه لهذه الدولة التي اختلقوها (في الماضي) هو القاعدة التاريخية للحركة الصهيونية (في الحاضر). ووفق كنعان، فهم "باختصار، اختلقوا أو ابتدعوا أو اخترعوا (مملكة قديمة)، وركّبوا تاريخاً لتلك المملكة، على اعتبار أن المملكة المختلقة، والتاريخ المركّب لها، هما وحدهما اللذان يبرّران الحقّ في امتلاك أرض فلسطين، وإعادة بناء دولةٍ يهوديةٍ، تكون امتداداً أو استمراراً للدولة اليهودية القديمة".
وهذا تحديداً ما دفع كنعان إلى أن يكون قاسياً جداً بحق الذين فتنوا لا بإسرائيل، ولكن بالأسس الزائفة والعنصرية التي قامت عليها، ويجري تبرير قيامها على الأسس نفسها، ليس استناداً إلى نفي التاريخ، بل والتدخل في كتابته زوراً وبهتاناً، بما أضفى ويضفي مسحةً، بل مسحات من خرافات التورية التاريخانية، وهي تمضي بعملية تصديق ما لا يصدّق، ولا يمكن القبول به عقلياً ومنطقياً من سيل التلفيقات التي أضفت على "إسرائيل التوراتية" تبريرات الوجود في الماضي، من أجل القبول بها "دولة واقعية" في الحاضر، دولة للعنصرية الصهيونية السياسية واللاهوتية، وهي التي لم تستطع، على الرغم من مرور أكثر من 68 عاماً على إقامتها، ومرور نحو 50 عاماً على احتلال البقية الباقية من فلسطين، أن تعثر على أي لقيةٍ من اللقى التاريخية التي تثبت مزاعم توراتها وتزييفاتها التاريخانية، لا في شأن الاشخاص، ولا في شأن المواقع، ولا الأحداث المسرودة عن تلك الحقب التي لم تكن ذات طابع "إسرائيلي" بالمطلق، قدر ما تثبت النصوص والنقوش والآثار التاريخية أن هذه الحقب إنما عبقت، على الدوام، برائحةٍ عربية كنعانية. ولكن، للأسف، لم يستطع الكنعانيون، ولا الفلسطينيون فيما بعد، أن يحتلوا مسرح الرواية التاريخية، أو أن يحرّروا التاريخ، أو يستعيدوه من كل مجالات الهيمنة والسيطرة عليه.
استنادا إلى هذه الخلفية، سعت حكومات الاحتلال، على امتداد أزمان تكويناتها، كما تسعى حكومة الائتلاف اليميني المتطرّف الحالية، وعبر "برنامجها الملزم"، إلى ممارسة أقصى محاولات تغيير المعالم الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس، وطمس كل ما يدلّ على الآثار العربية المؤكّدة فيها، في غياب أي أثر تاريخي في باطنها، مزعوم ومتوهم؛ للقبائل اليهودية التي عبرت، أو كانت تترحّل في إطار المنطقة، بشهادة علماء آثار إسرائيليين، وغربيين قبلهم؛ يشهد لهم ولكفاءتهم العلمية، باتوا يؤكّدون أنهم لم يعثروا على ما يثبت يهودية المدينة في أي وقت من التاريخ، في غياب أيّ آثار، أو لقى تاريخية، يمكنها أن تثبت أنها كانت يوماً ما يهودية، من قبيل ما تزعمه الخرافات التوراتية عن مملكة سليمان أو اصطبلات داود، وما يُنسب إليهما، ولأمثالهما من آثار ومخلفات لم توجد قط، إلى درجة التشكيك بوجود أسماء كهذه وُجدت وعاشت تاريخياً على مسرح المنطقة القديم. وبحسب مجلة تايم الأميركية (1/2/2010) التي قابلت مجموعة من علماء الآثار الإسرائيليين، فإن الهدف من الحفريات التي تمت وتتم هو طرد الفلسطينيين من المدينة؛ تهويدها وأسرلتها وإخراجها من نطاق تاريخها الحقيقي.
وتستمر حكومة الاحتلال في تكثيف أعمالها الهادفة إلى تهويد القدس، وتفريغها ديموغرافياً من
أصحابها الفلسطينيين وإقامة منشآت ذات صبغة يهودية، مثل إقامة "كنيس الخراب"، واستهداف المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والبلدة القديمة. حيث تراهن حكومة الاحتلال على تمهيد الأرض أمام إفقاد القدس الشرقية كينونتها العربية، بغرض إنجاز عملية ابتلاعها وضمها إلى القدس الغربية، في محاولةٍ للزعم أنها "العاصمة الأبدية لدولة يهودية" هي كيان إسرائيل الاحتلالي، القائم اليوم على أرض الفلسطينيين ووطنهم التاريخي.
وبهذا تكون إسرائيل قد سعت وتسعى عملياً إلى تنفيذ ما يسمى مخطط 2020، وهو مشروع يهدف إلى جانب مخططات إقليمية أخرى، إلى إقامة القدس الكبرى، وتكريس شعار "القدس عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل"! وإلى تهويد المدينة بضم مستوطنات إلى مناطق نفوذها وتقليل أعداد الفلسطينيين فيها.
علاوة على ذلك، تسعى حكومة اليمين القومي والديني المتطرف، اليوم في إسرائيل، إلى ضم مستوطنة معاليه أدوميم، كبرى المستوطنات في الضفة الغربية إلى القدس المحتلة، حتى قبل إقامتها، بغرض تقطيع أوصال الضفة الغربية، وإفقاد الدولة الفلسطينية المفترضة المزيد من تواصلها، حتى بين مدن الضفة وقراها ومخيماتها. ووفق تقريرٍ أعدته جمعية بمكوم ومنظمة بيتسيلم، فإن إسرائيل صادرت 32 ألف دونم لإقامة هذه المستوطنة، حيث يجري العمل على تحويلها إلى مدينةٍ تقطع التواصل الجغرافي بين وسط الضفة وجنوبها، للحؤول دون إقامة دولة فلسطينية في المستقبل.
ومهما يكن قرار "اليونيسكو"، فهو إلى جانب أنه إدانة كاملة للاحتلال وممارساته في المدينة، فهو مؤشرٌ إلى ما يمكن البناء عليه من كشفٍ لمخططات التهويد والأسرلة التي تتبناها حكومات الاحتلال، وتمضي إلى تنفيذها غير عابئةٍ بمواقف دولية، ما زالت عاجزةً عن وقف مظالم الاحتلال، وحماية تراث (وإرث) مدينة مقدسة ومساكن وممتلكات أصحابها الشرعيين، بل يمضي الإسرائيليون، اليوم، في عملية ضم وإلحاق وحفر في باطن الأرض، وإجراء تغييرات جغرافية وديموغرافية، لعل وعسى تكون السيادة كاملةً ومطلقةً يوما، لكن هبات المقدسيين وإخوانهم من الفلسطينيين وانتفاضاتهم على جانبي ما يسمى "الخط الأخضر"، أي على امتداد أرض الوطن الفلسطيني التاريخية، ستبقى شواهد ثابتة تناطح مخارز الاحتلال، في سجلٍّ لا يمحى من سجلات تاريخ شعب يقاوم.
وكما لاحظ إدوارد سعيد، إذا كان الاستشراق مؤسسة عملية، قام بواسطتها الباحثون والمهتمون بالشرق، بإيجاد تاريخ يتوافق مع مخططاتهم الاستعمارية، وأيضاً مع تحيّزاتهم الثقافية والدينية، فهكذا فعل توراتيو الأزمنة الغابرة، ويفعل الآن توراتيو الأزمنة الحديثة، في نظرتهم إلى الوطن الفلسطيني، والشرق عامة، فبأي أدواتٍ نواجه ونقاوم، وبأيها ننقض هذا التراث الذي يحاول أن يكون إحلالياً في وجهنا؛ نحن أصحاب الأرض؟
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.