عن الكتابة بلغةٍ أخرى

عن الكتابة بلغةٍ أخرى

25 أكتوبر 2016

رواية نجوى بركات "يا سلام" مترجمة إلى الفرنسية

+ الخط -
دُعيتُ إلى المشاركة في المنتدى السنوي الذي تقيمه جمعية أهل الأدب الفرنسية (في مقرّها الباريسي في قصر ماسّا) التي ترعى شؤون الكتّاب وحقوقهم، والذي انعقد، أخيراً، تحت عنوان "اللغة الفرنسية موطناً"، وشاركت فيه مجموعةٌ من الكتّاب المعروفين الذين جاءوا من جنسياتٍ مختلفة، معتمدين الفرنسية لغة كتابة وتعبير، ومن بينهم الكاتب الروسي الأصل، أندريه ماكين، والكاتب الهاييتي، داني لافيريير، وكلاهما عضوان في الأكاديمية الفرنسية، والكاتب من أصل مغربي، فؤاد العروي، بالإضافة إلى أسماء أخرى من أصول يابانية وصربية وإيرانية وباسكية وإيطالية، إلخ. 

كنتُ قد شرحتُ للمسؤولة استغرابي الدعوة إلى المشاركة، أنا التي أكتب أساساً باللغة العربية، رواياتٍ ومقالات، إلى جانب نشري أحيانا بالفرنسية مقالاتٍ ورواية واحدة حملت عنوان "مستأجرة شارع بو دو فير"، فقالت إن هذا هو بالضبط ما يهمّها، أي السبب الذي جعل لي تجربةً يتيمة بالفرنسية، وسبب استمراري في الكتابة بالعربية.
هدفت المحاورُ المطروحة إلى سبر معاني الكتابة بلغة "الآخر"، معرفة إذا ما كانت الكتابة بلغةٍ أخرى تتيح للكاتب تجاوز كل أنواع "التابو"، وقول ما هو غير قادر على قوله بلغته الأم، واستكشاف الآليات التي تتحكّم بالكتابة، عندما يستخدم الكاتب لغةً لم تُعطَ له لدى ولادته، ليعبّر بها عن هموم بلاده، إلا أن معظم المشاركين تحدثوا عن علاقتهم باللغة الفرنسية، وعن خيارهم الكتابة بها، وتفكير العالم من خلالها، من دون أن يتعرّضوا لأسباب خيارهم هذا، وهو ما فعله مثلا الكاتب المعروف، أندريه ماكين، الذي تناول علاقة الروس بالثقافة الفرنسية، تاريخياً، فبقي بعيداً كل البعد عن تجربته الشخصية، أو عن سبب اختياره لغةً أخرى للكتابة والتعبير.
بدا مستغرباً جدا لي أن يبدو المنتدى وكأنه قد خُصّص فقط للاحتفاء باللغة الفرنسية. وإن افترضنا أن هذا غرضه الضمني، فقد كان مدهشاً جداً عدم دفاع كل أولئك الكتّاب ذوي الأصول الأجنبية، عن لغاتهم الأمّ، أو الإتيان حتى على ذكرها، وإن يكن لمحاكمتها. فقد بدوا، في معظمهم، وكأنهم يتفادون الخوض في الموضوع الأساسي، وحين كان يُطرح السؤال عليهم، كانوا يجيبون أنهم يعيدون ترجمة كتبهم، بأنفسهم، إلى اللغة الأم.
وبقدر ما كان استغرابي لهم، كان استغرابهم لي، حين تحدثتُ عن تجربة الكتابة بالفرنسية التي فرضها عليّ موضوع روايتي المتعلّق بهذا الجزء من تجربتي "الباريسية"، وهي رواية تبدأ وتنتهي بهلالين، للقول إنها تجربةٌ استثنائيةٌ داخل مساري الروائي، وعن خياري الواعي الكتابة باللغة العربية، على الرغم من كل شيء. إذ ماذا يعني أن تكتب بلغةٍ أخرى، حين لا تجد صعوبةً في التعبير بلغتك، وهل هناك لغةٌ لها خصوصية أدبية أكثر من لغةٍ أخرى؟ أم أنها رغبة الكاتب بتبنّي "لغةٍ رابحة"، أي تلك التي ستوصله إلى الشهرة، أو إلى الاعتراف به من أكبر عددٍ ممكن من القراء؟ هناك كتّابٌ عرب اختاروا الكتابة بلغة البلاد التي هاجروا إليها قسراً، لأن علاقتهم بلغتهم وبثقافتهم كانت مضطربة، فهم إما لا يتقنونها، أو أنهم يرون فيها لغة القمع والمنع والكبت والتضييق. هؤلاء لم يختاروا فعلاً إذا صحّ التعبير، بل هم انحازوا إلى اللغة التي حضنتهم ومنحتهم الشعور بالحرية، وهذا إنساني ومفهوم...
لم يُعجب كلامي البعض. أدركت ذلك من الانزعاج الذي بدا على وجوه المشاركين. كان ذلك في آخر جلسةٍ انعقدت بعنوان "من الجذور الثقافية إلى مواطن الخيال"، وشاركني بها ثلاثة كتّاب هم السلوفينية برينا سفيت، والإيرانية سرور قسماي، والباسكي فريردريك أريبيت. كان ثمّة شعور بالذنب، وشعور بالاستفزاز. وحين سئلت عن سبب خياري الكتابة بلغتي، على الرغم من إتقاني الفرنسية، وإقامتي الطويلة في باريس، قلت: أكتب بالعربية أولاً لأنها لغتي، وثانيا لأني أعشقها، وثالثاً لأنها كما يقول كامو، موطني الوحيد، ورابعاً لأنها الآن لغةٌ مكروهة، وأنا مستعدة لدفع الضريبة، وخامساً لأن الترجمة موجودة، وسادساً وأخيراً لأن الكتابة بالعربية هي الممارسة الأقصى لحريتي.
حريتك؟ قد يتساءل بعضهم مندهشاً. أجل، حرية ألا يشوب أيُّ اعتبارٍ من اعتبارات "الانتشار" علاقتي بها، وحرية أن أكتب لكل هذا الخواء.


نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"