"اليسار الإسلامي" ضرورة مستقبلية

"اليسار الإسلامي" ضرورة مستقبلية

25 أكتوبر 2016

(فيسبوك)

+ الخط -
نشر الصديق المهدي مبروك مقالاً في "العربي الجديد" (23/10/2016) بعنوان "اختفاء اليسار الإسلامي في تونس"، بمناسبة عودة محمد القوماني، أحد أعضاء هذا التيار، إلى صفوف حركة النهضة. واستفزّني المقال بالمعنى الإيجابي لكلمة الاستفزاز، خصوصاً أن كاتبه أصدر أحكاماً قاطعةً، منها قوله إن اليسار الإسلامي في تونس اختفى "وتلاشى تقريبا". وبهذه المناسبة، قد يكون من المفيد الإشارة إلى توضيحاتٍ ربما تكون مفيدةً لكل من لديه اهتمام بهذه المسألة:
ـ بدأت الإرهاصات الأولى لولادة "الإسلاميين التقدميين" انطلاقا من خلافٍ تنظيميّ، نشأ في رحم ما كانت تسمى "الجماعة الإسلامية في تونس". لكن، سرعان ما تمحور الخلاف مع القيادة التاريخية للحركة حول مسائل فكرية جوهرية، لم تقف عند حدود نقد الإخوان المسلمين، حيث خاضت تلك المجموعة الصغيرة عصفاً فكرياً دام بضع سنوات، اخترق الحدود والأزمان، وكسر قيوداً كثيرة لا تزال تحدّ من إمكانات خروج حركات الإسلام السياسي من القمقم الذي ولدت فيه، وبقي يتحكّم في نموها، وفي طرائق التفكير والتنظيم والتربية لديها.
ـ لا تكمن أهمية هذه المجموعة الشبابية في عدد أفرادها، أو في فشلها في بناء تنظيمٍ حزبي، أو حركي، ولا حتى في عدد الورقات الفكرية التي صاغتها، سواء بشكل جماعي أو فردي. هناك لحظات تاريخية لا تقاس أهميتها بالكم، وإنما يقدّر حجمها وأهميتها بمدى تأثيرها على مجرى الأحداث، وبمدى قدراتها الكامنة في استباق التحولات الكبرى، وفي مدى مساهمتها الفعلية أو الرمزية في إطلاق حالات مخاضٍ قد تتأخر فيها الولادة، أو تتعرّض لصعوبات. وقد يحجم الجنين، في لحظةٍ ما، عن الخروج إلى العالم الفسيح، نتيجة الخوف أو الارتباك أو قيود الموروث، لكنه، في الأخير، سيولد، ومع ولادته قد تتغيّر أشياء كبرى في المحيط.
ـ عندما كنا منغمسين كلياً في ذلك العصف الفكري، ونحن شبان تنقصنا التجربة والاطلاع على التاريخ والعالم، كان يدفعنا حماسٌ فياضٌ نحو مراجعة كل ما قرأناه، أو تربينا عليه. وفي أحيان كثيرة، كنا نقترب من مناطق الفراغ أو المجهول، نطلّ عليها قبل أن نعود إلى الأرض التي تحت أقدامنا، ونواجه الأسئلة التي فجّرناها، نبحث لها عن إجاباتٍ مقنعة وعقلانية، فإذا بالبحث الحر يقذفنا إلى أسئلةٍ جديدةٍ، لم يحسم فيها الأجداد، أو أن بعضهم تقدّم بجديةٍ في تفكيكها، فإذا بالأغلبية المحافظة السائدة والمتحكّمة في العقل الإسلامي، والمسنودة بأنظمة حكمٍ عمياء، لا تؤمن بالعقل والفكر والحرية، فتكون النتيجة لجم الأصوات الحرّة، وإجهاض المشاريع الفكرية الواعدة، حتى لا تشقّ طريقها إلى العامّة، وتتحول إلى حركاتٍ واختياراتٍ وسياسات. كانت تجربةً ثريةً وممتعةً وجميلةً، على الرغم من الصعوبات والعوائق والإخفاقات التي صاحبتها.
ـ بقطع النظر عن المصطلحات والتسميات، الهلامية منها، على حد تعبير المهدي مبروك، أم غيرها، فالعبرة في المضمون. صحيح أن اليسار الماركسي فشل، لكن الليبرالية المتوحشة أدت إلى الجحيم. ويكفي النظر في واقع الحركات الإسلامية، وأيضاً في عموم الخطاب الديني، سنياً كان أو شيعياً، سنكتشف الحلقة الدائرية التي تتحكّم فيه، وتمنعه من أن يتجاوز ذاته، ويدخل في علاقةٍ جدليةٍ مع أسئلة اللحظة التاريخية الراهنة، ليؤسّس وعياً جديداً وخلاقاً وإنسانياً. ومن هذه الزاوية، يمكن القول، وخلافاً لما ذهب إليه الصديق، لم يختف "اليسار الإسلامي"، بل في كل لحظةٍ يتأكّد أن هذا التوجه النقدي، وبقطع النظر عن معضلة التسميات، لا يزال ضرورةً قصوى لمواجهة الانحدار السريع نحو أقصى اليمين، ما يهدّد بسقوط حضاريٍّ مخيف. وتجربة حركة النهضة مثالٌ حيٌّ على الحاجة الشديدة لهذا التوجه الفكري، فهي لم تسع فقط إلى استمالة بعض عناصر الإسلاميين التقدّميين، وإنما أيضاً تبنت عديداً من مقولاتهم، في مؤتمرها العام أخيراً، وفي ذلك رسائل عديدة للبحث والتأمل.