حقائق العنف في سيناء

حقائق العنف في سيناء

23 أكتوبر 2016
+ الخط -
شنّ مسلحون تابعون لتنظيم الدولة الإسلامية في سيناء، في الرابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، هجوماً على قوات من الجيش المصري، هو الأكبر من نوعه منذ شهور، راح ضحيته 12 جندياً على الأقل، وكان الهجوم مباغتاً بسيارات دفع رباعية على نقطة تفتيش للجيش المصري في منطقة بئر العبد وسط سيناء.
الهجوم هو الأول وسط سيناء، ويأتي بعد شهرين من إعلان الجيش المصري قتل قائد جماعة أنصار بيت المقدس، وبعد أكثر من عام على إطلاق حملة "حق الشهيد" التي أطلقها الجيش المصري في سبتمبر/ أيلول 2015، للقضاء على خطر الجماعات المسلحة في سيناء.
تدفعنا الخصائص السابقة إلى التساؤل بشأن حقيقة ما يجري في سيناء، وعن مدى نجاح جهود الحكومة المصرية في القضاء على الجماعات المسلحة هناك؟ وهل تعدّ الهجمات الأخيرة دليل فشل الجهود القائمة، أم أنها علامة على انحسار ما يعرف بولاية سيناء في ظل انحسار داعش في مواطن رئيسية لها، مثل سورية والعراق؟
تجب الإشارة، بدايةً، إلى أن العنف المسلح في سيناء بصفة خاصة، ومصر بصفة عامة، تصاعد في أواخر عهد حسني مبارك، وفي أثناء حالة الفوضى الأمنية التالية للثورة المصرية، ثم استفحل بعد انقلاب يوليو 2013 العسكري. وتفيد دراسة لمعهد كارنيغي الأميركي للأبحاث، صدرت في أواخر العام الماضي، بأن عدد القتلى بسبب العنف السياسي في مصر خلال سنوات تفشيه في التسعينيات 1300، بينهم 391 شرطيا و385 مدنيا و542 مسلحا، وذلك بين 1986 و1999. ولعل عدد المصريين الذين قتلوا في شهر أغسطس/ آب 2013 فقط يساوي أو يفوق من قتلوا تلك الفترة، مع العلم أن أغلب من قتلوا بعد الانقلاب العسكري مدنيون سلميون ومعارضون سياسيون، وليسوا من المسلحين الذين رفعوا السلاح ضد الدولة، ما يشير إلى مدى تردّي مرحلة العنف السياسي التي تعيشها مصر منذ ذلك الحين.
في الفترة التالية على الانقلاب العسكري، وحتى أواخر عام 2015، شهدت مصر مرحلة من العنف السياسي غير المسبوق حديثا على أكثر من جهة، بما في ذلك سيناء والصحراء الغربية والوادي، حيث تفيد دراسة كارنيغي بأن 700 شرطي مصري قتلوا منذ الانقلاب العسكري وحتى أغسطس/ آب 2015، هذا بالإضافة إلى مئات المدنيين والمسلحين. وشهد النصف
الثاني من عام 2015 أحداثاً أمنية جسيمة، مثل اغتيال النائب العام هشام بركات في يونيو/ حزيران، ومحاولة ولاية سيناء السيطرة على الشيخ زويد في يوليو/ تموز في هجوم ترك 35 قتيلاً من الجيش المصري على الأقل، وتفجير القنصلية الإيطالية في القاهرة خلال الشهر نفسه، ثم إسقاط الطائرة الروسية في أكتوبر/ تشرين الأول ومصرع 224 فرداً كانوا على متنها.
شهد عام 2016 انحساراً في موجات العنف السياسي في مصر، حيث تراجعت مظاهرات المعارضة بشكل ملحوظ، وتراجعت نبرة الحديث عن المواجهة في ظل انقسام التيار الديني وجماعة الإخوان المسلمين، كما انحسر بريق فكرة التمرد المسلح بشكل عام، بعد فقدان العنف بريقه، حيث معاناة شعوب سورية واليمن وليبيا والعراق، بسبب الحروب وهزائم داعش على مختلف الجبهات. لذا، تراجع العنف السياسي في الوادي بشكل كبير، وتراجعت أخبار جماعة المرابطين النشطة على حدود مصر الغربية، وتراجعت حدّة العنف في سيناء نسبياً، كما أعلنت الحكومة المصرية تحقيق عدة انتصارات ضد عناصر تنظيم بيت المقدس (ولاية سيناء)، حيث أعلنت، أوائل أغسطس/ آب الماضي، تمكّنها من القضاء على قائد التنظيم، أبو دعاء الأنصاري، وعدد من أكبر مساعديه في غارة جوية. لكن هذا لم يمنع من استمرار هجمات التنظيم على أكثر من مستوى أقل حدة وظهوراً، حيث استمر التنظيم في تصفية بعض رجال الشرطة، ومن يشتبه في تعاونهم مع الأمن من أهالي سيناء، كما توسع في استخدام سلاح العبوات الناسفة المزروعة على جوانب الطرق، كما شن هجماتٍ على رجال الشرطة والمجندين في أثناء تنقلاتهم في شمال سيناء، حتى قرّر في أكتوبر/ تشرين الأول مهاجمة نقطة تفتيش بئر العبد، ما استدعى رداً عنيفاً من الجيش المصري الذي قال المتحدث باسمه إن الطيران المصري شن غارات ثلاث ساعات متواصلة على مواقع لأنصار بيت المقدس في سيناء، انتقاماً للجنود الاثني عشر.
ولكي نقرّر طبيعة الهجمات أخيراً، وما إذا كانت تمثل عودة للتنظيم، وفشل للحكومة المصرية في التعامل معه، يجب الإشارة في ضوء ما سبق إلى العوامل التالية:
أولاً: تحذّر دراسات أمنية، منذ شهور، من أن حملة الجيش المصري العسكرية المكثفة على مواقع التنظيم في رفح والعريش والشيخ زويد ستدفعه إلى تغيير تكتيكاته نحو الاعتماد المتزايد على العبوات الناسفة والهجمات الخاطفة من ناحية، وإلى نقل عملياته إلى وسط سيناء، هروباً من الحملة العسكرية المتزايدة في الشرق، وهو ما حدث، حيث زاد التنظيم من استخدام العبوات الناسفة، كما تحرّك نحو بئر العبد وسط سيناء، ما يعني اقتراب الخطر أكثر من قناة السويس.
ثانياً: حذرت دراسات مختلفة من غياب أي أفق سياسي لاستراتيجية النظام المصري في
التعامل مع العنف السياسي، سواء في الوادي أو في سيناء، فالنظام لا يعرف إلا الحل الأمني والقمع الفاقد للشرعية بشكل متزايد في أعين معارضيه. وعلى الرغم من وجود رأي عام مصري كبير معارض للجماعات المسلحة وللعنف السياسي، إلا أنه توجد بالتوازي معارضة متزايدة للنظام المصري وسياساته القائمة على الحلول الأمنية والقمع والانتهاكات الجسيمة وتصفيه المعارضين والمحاكمات الهزلية، وقد ساهمت كل تلك السياسات، ليس فقط في غياب أي أفق سياسي، بل وفِي إضعاف المعارضة السياسية نفسها وتقسيمها، والحدّ من قدرتها على الحشد ضد العنف وحول مشروع سياسي سلمي.
ثالثاً: أحدث التقديرات الأمنية تفيد بأن ولاية سيناء مازالت تمتلك عدة مئات من المقاتلين قد يصلون إلى ألف، وفقاً لتقدير مدير الاستخبارات المركزية الأميركية في يونيو/ حزيران 2016، وهذا يعني أن الجماعة مازالت قادرةً على التخفّي وإيواء مئات المقاتلين، على الرغم من الضربات الأمنية المستمرة لها. والمعروف كذلك أن الجماعة تجمع في عضويتها بين المقاتلين المصريين والأجانب، وأنه، مع تراجع داعش في سورية والعراق وليبيا وانحسارها هناك، قد تشهد مصر موجةً من المقاتلين المصريين العائدين من تلك الدول، بكل ما تلقوه من خبرات وتدريب.
رابعاً وأخيراً، يضرب النظام المصري تعتيماً إعلامياً شبه مطلق على كل ما يجري في سيناء، ما يجعل الوقوف بدقة على حقيقة ما يجري هناك مهمةً في غاية الصعوبة.
وفِي ضوء ما سبق، يمكن القول إن عمليات النظام الأمنية يمكن أن تضعف أو تعطل الجماعة فترة، أو تقضي على بعض قادتها، لكنها لن تتمكّن من القضاء عليها في غياب استراتيجية سياسية أكبر. وعلى الرغم من أن النظام يستفيد سياسياً من وجود الجماعات العنيفة، من خلال استخدامها في طلب الدعم الخارجي، ورفض مطالب الإصلاح السياسي، إلا أن خطر تلك الجماعات قد يفوق أحياناً الحدود المسموح بها من خلال توغله غرباً في سيناء في اتجاه قناة السويس والوادي، ومن خلال قيامه بعملياتٍ نوعيةٍ، مثل هجوم بئر العبد أو الهجوم على أهداف وسط القاهرة أو ضد الأجانب، ما يسبب ضغطاً كبيراً على النظام المصري الحاكم، وإضراراً بالغاً بالاقتصاد والسياحة، كما تبقى الساحة المصرية مفتوحةً أمام احتمالات عودة العنف بدرجات مختلفة، في ظل تردّي الأوضاع الاقتصادية، وتنامي الغضب السياسي، وتصاعد الانتهاكات الحقوقية.