العقل اللبناني... التائه

العقل اللبناني... التائه

22 أكتوبر 2016
+ الخط -
لا جديد تحت الشمس في لبنان، سوى تبنّي سعد الحريري ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية اللبنانية يوم الخميس. لا جديد في مسألة التحالفات السياسية والتحوّلات الموسمية، بل نجاح "التقاليد" التاريخية في فرض نفسها في وطن الأرز. لا جديد أيضاً في ردّ فعل "متطرفّة" من شريحةٍ كبيرةٍ من اللبنانيين، سلباً أو إيجاباً، على الملف الرئاسي. والحصيلة "الحتمية" حتى الآن؟ وصول عون إلى القصر الرئاسي في بعبدا (شرقي بيروت) فور انتخابه في جلسة نيابية مقررة في 31 أكتوبر /تشرين الأول الحالي.
تتعدّى المسألة قضية الترشيحات الرئاسية الأخيرة، والتقلبّات التي رافقتها، إلى ردود فعل الغالبية العظمى من اللبنانيين. من راقبهم شاهد مدى ارتباطهم بالمنظومة الطوائفية ـ المناطقية ـ السياسية، على حساب أي شيء آخر، في تأييدهم خيار عون أو رفضهم له. لم ينطلق معظم هؤلاء من مفاهيم محدّدة، يُفترض أن تكون أرست ركائزها العام الماضي، بعد استفحال أزمة النفايات، ونزول أعدادٍ كبيرة من اللبنانيين إلى الشارع للاحتجاج. لقد تبيّن أن عدم النجاح في معالجة ملف النفايات شعبياً، دفع أركان السلطة والطبقة الحاكمة إلى تكريس النزعة الطائفية ـ المناطقية في العمل السياسي.
لذلك، فإن ترشيح الحريري عون، ورفض بعضهم له، لا يأتي في سياق "بناء دولة" أو "تحرير العقل اللبناني"، بقدر ما يأتي نتيجة تفاهماتٍ ظرفية، تدوم سنواتٍ محدّدة، قبل أن تبرز الخلافات مجدّداً. يعود ذلك إلى أن العقل اللبناني لم يخرج بعد من ترسّبات الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) أولاً، ولا من إسباغ العامل الطائفي على مختلف القرارات السياسية ثانياً. ما يدفع حكماً إلى إعادة إنتاج سلطةٍ هجينة، معرّضة للانفجار في أي وقتٍ.
وإذا اعتبرنا أن لا أحد يريد تدهور الوضع اللبناني أمنياً، كي لا تزدحم الشواطئ الأوروبية بملايين اللاجئين الجدد، إلا أنه، في المقابل، فإن لا أحد يريد، أو قادر، على تغيير السلوكيات اللبنانية في الوقت الحالي. وبدلاً من الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي "لاكتشاف" اللبناني الآخر، باتت تلك الوسائل متاريس افتراضية، ترسّخ الفوارق البشعة بين اللبنانيين، طالما اعتمدوا "الغريزة" معياراً لهم.
مشكلة العقل اللبناني، عدم إدراكه، أو إدراكه، لكنه لا يريد التصديق أو التراجع، أن من هم في السلطة لا ينظرون إلى الأمور كنظرته. يظنّ العقل اللبناني أن فلاناً "يحميه" طائفياً ومناطقياً، لكن هذا "الفلان" لا يفكّر بهذه الطريقة، بل ما يفكّر به هو كيفية تثبيت وجوده في السلطة، مادياً ومعنوياً. يبدو لبنان كأنه شركة يستميت فيها الموظفون وصغار الكسبة في الدفاع عن أصحاب الشركة، في مواجهة موظفين وصغار كسبة تابعين لشركة أخرى. وذلك في وقتٍ يجلس فيه أصحاب الشركات كمن يتابع "صراع ديوك". الفارق أن "الموظفين وصغار الكسبة" في الحالة اللبنانية هم "مموّلو" الصراع وضحيته.
المسألة، بشكل عام، غير مرتبطة بنظام سياسي، ولا بنظام طائفي، لا بـ14 آذار ولا بـ8 آذار، لا بميشال عون ولا بسعد الحريري ولا بغيرهما، وإنما بتغيير ذهنية التفكير اللبنانية، فبدلاً من تمجيد أمير حربٍ في لحظة سياسية، لمصلحة أمير حربٍ آخر، كان الأجدى الدفاع عن الحقوق الاجتماعية بالحدّة نفسها التي يتم الدفاع فيها عن أمراء الحرب. المسألة تطاول أيضاً من يعتبرون أنفسهم "مفكّرين" و"نخبويين"، المفترض أن يكونوا مرشدين لحالةٍ من الوعي. راكم معظم أمثال هؤلاء تفكيرهم على الأبعاد الضيّقة المحيطة بهم، اجتماعياً وجغرافياً، من دون "لبننة" الإنسانوية في العمل السياسي.
بعد قليل، يخمد الصراع المستجدّ، وتهدأ الأوضاع، ويجتمع السياسيون في مناسباتٍ معيّنة، بينما يبقى العقل اللبناني في محنته، حتى إشعار آخر. في الواقع، نحن لا نريد التغيير، ولا هم يريدون، والطبقة السياسية تفعل ما تريد.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".