فرصة "حماس"

فرصة "حماس"

17 أكتوبر 2016
+ الخط -
لم يتمكّن رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خالد مشعل، من تحديد مكمن الخلل الرئيس في سلوك حركته السياسي، عندما أقرَّ، أخيراً، بأن قرارها الانفراد بإدارة حكم قطاع غزة بعد انتخابات 2006 كان خاطئاً. فقد كان من الواضح أنه حتى لو توفرت الرغبة لدى "حماس" بضم فصائل أخرى لحكوماتها، فإن أحداً من هذه الفصائل لم يكن معنياً بإنجاح تجربة "حماس" في الحكم، بالانضمام لحكومة ائتلافية تقودها الحركة. كان حريّاً بمشعل أن يعترف، أولاً، بأن خطأ "حماس" الجذري تمثل في سلوكها مساراً سياسياً أفضى إلى ثنائية "الحكم" والمقاومة المستحيلة، فلا يمكن لحركةٍ وطنيةٍ أن تقاوم سلطة احتلال، وفي الوقت نفسه، تدير "حكماً" يتحكم الاحتلال في شروطه وظروفه. ناهيك عن أن البيئة الدولية والإقليمية التي تبدي حساسياتٍ شديدةً تجاه حكم الإسلاميين لم تكن لتسمح بنجاح التجربة، فقد وظف الاحتلال وجود "حماس" في الحكم، لتبرير جباية أثمانٍ باهظةٍ ومضاعفة منها، ومن الفلسطينيين في القطاع، رداً على العمل المقاوم الذي تمارسه، أو العمليات الاستعراضية التي ينفذها خصومها، من أجل توريطها.
أدركت "حماس" الحاجة الماسّة إلى التخلص من تبعات الانفراد بـ "حكم" غزة، وسعت بجديةٍ إلى التوصل إلى اتفاقاتٍ تنهي حالة الانقسام الداخلي مع السلطة الفلسطينية وحركة فتح والفصائل الأخرى، وتضفي شرعيةً على إعادة تموضعها في النظام السياسي الفلسطيني. لكن جهود إنهاء الانقسام لم يكن ليكتب لها النجاح، لأن الطرف الإسرائيلي رأى في الانقسام
الفلسطيني وسيلةً لتكريس الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وفرصةً لزيادة هامش المناورة أمام تل أبيب، في مواجهة كل من السلطة وحماس. في الوقت نفسه، لا يوجد لدى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، أي استعداد لاستعادة مسؤولية السلطة، ولا سيما الأمنية على قطاع غزة، خشية أن توظفها حكومة اليمين الصهيوني في ابتزازه، أكثر مما تقوم به حاليا.
الفرصة الوحيدة المتاحة أمام حركة حماس للتخلص من تبعات الجمع بين الحكم والمقاومة، ولتستعيد رشاقتها وتقلص من قدرة الآخرين على التربصّ بها ومحاصرتها، مع كل ما يترافق مع ذلك من إضرارٍ بالقضية الفلسطينية والفلسطينيين؛ تتمثل في استعدادها لإعادة التموضع في مرحلة ما بعد محمود عباس، والتي تحاول القوى الإقليمية رسم ملامحها مسبقاً، بحيث تضمن استمرار حصار "حماس" وعزلها.
لن يسمح الواقع الفلسطيني الداخلي بنجاح ما تخطط له أنظمة الحكم العربية التي تحاول تصميم البيئة الفلسطينية الداخلية، من خلال فرض مرشح لخلافة عباس، يضمن التهدئة مع إسرائيل ومواصلة محاصرة المقاومة الفلسطينية. ومن العوامل التي ستفشل مخططات القوى الإقليمية: الإحباط من "أوسلو" ومخرجاتها وخيبة الأمل من أداء السلطة الفلسطينية وقياداتها والمزاج الثوري الذي تعكسه عمليات المقاومة الفردية، والخلافات العميقة داخل "فتح"، وتعدّد محاور الاستقطاب داخلها، وغياب شخصيةٍ فلسطينيةٍ تحظى بقبول جماهيري؛ إلى جانب جنون التطرّف الذي تتسم به سياسات حكومة اليمين في تل أبيب، والتي لا تبدي أية مرونةٍ لمساعدة القوى الإقليمية في تحقيق مبتغاها. ويزيد الأمور تعقيدا أمام القوى الإقليمية حقيقة أن هناك حاجة لفائض من المرشحين المناسبين لشغل المواقع القيادية التي ستخلو بعد غياب عباس، وهي: رئاسات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والسلطة الفلسطينية وحركة فتح.
من هنا، يتطلب ترتيب البيت الفلسطيني بعد عباس توافقا حتميا مع حركة حماس التي تحظى بدعم قطاعاتٍ واسعةٍ من الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ناهيك عن ثقلها السياسي والعسكري، فكل من سيتولى المواقع القيادية التي يشغلها عباس حالياً سيكون في حاجةٍ إلى دعم "حماس"، وهذا ما سيوفر الظروف لإنهاء الانقسام، ويمكّن الحركة من إعادة التموضع في المشهد الفلسطيني، بشكلٍ يسمح لها بالتخلص من تبعات الجمع بين المقاومة و"الحكم"، ناهيك عن أنه يسمح بتقليص قدرة إسرائيل والقوى الإقليمية على المسّ بالحركة ومواصلة عزلها.
لكن ما تقدم يتطلب من "حماس" التحوط، وأخذ زمام المبادرة، من أجل تحسين قدرتها على المناورة، عندما تبدأ مرحلة ما بعد عباس، من خلال الوفاء بشروطٍ تضمن إعادة اندماجٍ سلس في النظام السياسي الفلسطيني. وفي مقدمة هذه الشروط الاستعداد للتوافق مع بقية الفرقاء في الساحة الفلسطينية على برنامج عمل وطني، يقوم على جملةٍ من القواسم المشتركة، مع كل ما يتطلبه الأمر من مرونةٍ واستعدادٍ لتقديم التنازلات التي يمكن أن تمسّ المكتسبات التنظيمية للحركة، لكنها، في المقابل، تعضد الموقف الوطني وتحصّنه، وتعيد للقضية الوطنية مركزيتها.
لكن مرحلة ما بعد عباس لا تتوقف فقط على سلوك حماس، فقد يتعذّر التوافق على شخصياتٍ تخلف عباس، وقد يفضي هذا الواقع إلى سيادة حالةٍ من الفوضى، ولو بشكلٍ مؤقت، سيما في الضفة الغربية. فعلى "حماس"، عندئذ، ألا تتردّد في "تعويم" الوضع الفلسطيني، بحيث لو توقفت مؤسسات السلطة في الضفة عن العمل والفاعلية نتاج حالة الفوضى، فيتوجب توفير الظروف نفسها في غزة، بحيث تتخلى "حماس" عن أن أيٍّ من مظاهر المسؤولية في القطاع. ومن المؤكد أن أي تحركٍ وطنيٍّ لمعالجة الفوضى في الضفة الغربية وقطاع غزة سيقوم على توافقٍ لا تخضع شروطه وظروفه لقيود الانقسام الداخلي.
ويتطلب ما تقدم من قيادات "حماس" أن تتخلى عن منهجية التفكير التي تحكمها حالياً، والتي أسهمت، في بعض الأحيان، في تحويل الفرص إلى مخاطر.