المشاركة والاستحواذ

المشاركة والاستحواذ

02 أكتوبر 2016
+ الخط -
هناك تعريفات عديدة للسياسة، أو العملية السياسية، أو السياسات. ولكنْ هناك تعريفٌ لفت نظري أخيراً، هو أن السياسة عمليةٌ يختار فيها "المجتمع" القواعد والقوانين الحاكمة والمنظمة لشؤونه. وفي هذا التعريف، تتم ممارسة السياسة من خلال المؤسسات السياسية، وهذه تمثل المحدد الرئيسي لنتيجة هذه اللعبة، وتمثل القواعد والدستور والقوانين العلاقات بين هذه المؤسسات، وكيفية اقتسام السلطة بينها، وكيفية رقابة كل مؤسسةٍ على الأخرى، وتمثل العلاقة بين المؤسسات قواعد اللعبة، والتحكّم في المحفزات والفرص المتاحة في مجال السياسة، وطريقة اختيار السلطة التنفيذية، كالرئاسة والحكومة ودور سلطات كل منها، وصلاحيات باقي مؤسسات الدولة، ونصيب كل مؤسسة في السلطة، كالقضاء والبرلمان، وكذلك رقابة كل سلطة على الأخرى، ودور كل مؤسسةٍ في تقييد سلطات الأخرى.
ومن المفترض في هذا التعريف، والذي تطبقه الدول الديمقراطية والمتقدمة بنسب متفاوتة، أن يكون للمجتمع الدور الرئيسي والأكبر في تحديد قواعد اللعبة. وعندما يكون المجتمع حرّاً أو حيّاً، فهو كذلك الذي يراقب المؤسسات أو يشاركها أو يقوّمها.
وتحدّد المؤسسة السياسية الجهة التي تملك السلطة في المجتمع، وطريقة اختيار الحكومة. وإذا كان توزيع السلطة ينحصر في نطاق ضيق، من دون قيود أو قيود أو ضوابط، تكون المؤسسات السياسية ذات سلطة مستبدة مطلقة، كما يوجد في الدول المستبدة المتخلفة التي لديها ديمقراطية شكلية، ومؤسسات صورية.
وهناك أحد التصنيفات للمؤسسات السياسية الذي يصنفها بين نوعين. يطلق على الأول مؤسسات سياسية تشاركية، تشمل الجميع بدون إقصاء، ويطلق عليها مجازاً مؤسساتٍ شمولية. ومعنى كلمة شمولية هنا شمول الجميع وإشراكهم واحتواؤهم. وليس لها علاقة بالأنظمة أو الأيديولوجيات الشمولية التي تقود إلى إقصاء الآخر. أما التصنيف الثاني للمؤسسات السياسية فهو المؤسسات السياسية الاستحواذية أو الاحتكارية.
وهناك علاقة وثيقة بين المؤسسات السياسية والاقتصادية، فالمؤسسات السياسية الشمولية، أو التشاركية التي تشمل الجميع، وتسمح بالمشاركة والتعدّدية من دون إقصاء، تقود إلى مؤسساتٍ اقتصاديةٍ أكثر مرونةً ونجاحاً، وشاملة جميع الأفكار والمكونات، من دون احتكار وجمود وظلم اجتماعي. وبالتالي، لا تستطيع مؤسسة سياسة أو "سيادية"، أو مجموعة أو طائفة أو عائلة أن تحتكر الثروة والموارد والصناعة والتجارة، على عكس المؤسسات الاقتصادية الاستحواذية التي يكون هناك مؤسسة أو مجموعة أو عائلة أو طائفة أو قبيلة محتكرة صناعةٍ ما أو مستحوذة على حقوق الاستيراد أو التصدير أو بيع الأراضي، ما يؤدي إلى غياب العدالة، واختلال الميزان، والعديد من الصراعات والنزاعات والتوتر.
وهناك عامل يتداخل أيضاً، ويؤثر على عمل المؤسسات السياسية والاقتصادية، وهو قدرة السلطة أو النظام الحاكم على بسْط السيطرة على كل رقعة الدولة، وتطبيق القانون على الجميع. وهذا يؤثر بالتأكيد في سلوك المؤسسات وسماتها، فالدولة التي لا تستطيع تطبيق القانون في بعض الأماكن، أو لبعض الاعتبارات، أو لا يتم تطبيق القانون على الجميع، من دون محاباة، أو التي يتم تطبيق القانون فيها بشكل موسمي تصنّف دولة فاشلة.
وليس معنى ذلك أن الأنظمة شديدة المركزية، أو الأنظمة السلطوية القمعية التي تفرّط في
التنكيل والانتقام، تصنف أنظمة ناجحة، بل إن معظم الدول شديدة المركزية، أو السلطوية القمعية، تكون أكثر فشلاً وفساداً وطاردةً للإبداع والابتكار، وكذلك طاردة للاستثمار، بسبب التطبيق الموسمي وغير العادل للقانون، وبسبب احتمالية حدوث اضطرابات سياسية. فتعقيد قوانين وإجراءات الاستثمار وصعوبة تأسيس الشركات، أو تسجيل الابتكارات، وكذلك كثرة الثغرات في القوانين المتعدّدة والمتضاربة يسمح بالفساد والرشوة، ما يؤدي إلى هروب العقول والابتكارات ورؤوس الأموال للدول الأكثر حرية. ويعيدنا هذا، مرة أخرى، إلى المؤسسات الاقتصادية التي تشمل الجميع، وفيها تكافؤ فرص أمام المؤسسات الاقتصادية الاستحواذية، أو الاحتكارية، فالمؤسسات السياسية التي فيها شمول وإدماج للجميع، ومشاركة من الجميع، من دون قمع ومن دون إقصاء ومن دون احتكار للسلطة، تقود إلى الاستقرار السياسي، واحترام الحريات والحقوق وإطلاق طاقات الإبداع والابتكار. وهذا يؤدي كذلك إلى إنشاء مؤسساتٍ اقتصاديةٍ، فيها شمول وتكافؤ للفرص، وشفافية وعدالة، واستقرار اقتصادي يساعد على النمو والتنمية.
على عكس المؤسسات السياسية الاستحواذية التي تحتكر السلطة، ولو بديموقراطية شكلية، ما يؤدي إلى مؤسساتٍ اقتصاديةٍ استحواذية احتكارية، لتحتكر الصناعات والثروات في يد طائفةٍ أو فئةٍ دون الآخرين. وهو ما يؤدي إلى عكس النتائج التي تترتب على المؤسسات الاقتصادية التي فيها شمول وإدماج للجميع، وأكبر مثال على ذلك أيضاً الفارق في التعليم والتكنولوجيا والتطور بين النموذجين، فالمؤسسات السياسية والاقتصادية التي فيها شمول وإدماج، وتتيح الفرص للجميع، تعطي حافزاً لدعم التعليم والبحث العلمي والتطور الصناعي والتكنولوجي، على عكس المؤسسات السياسية والاقتصادية التي فيها استحواذ واحتكار للسلطة والثروة، فمستوى التعليم المتدني في الدول التي تحكمها أنظمة سلطوية استبدادية يرجع إلى تلك المؤسسات التي تفشل في إيجاد فرص ومحفزات للتعليم والتطوير، فلا يوجد دافع لدى الحكومة للاتفاق على تطوير التعليم والبحث العلمي، وكذلك لا يوجد دافع لدى تلاميذ كثيرين، أو أولياء الأمور، للاهتمام بالتعليم الحقيقي، أو وقف التسرب من التعليم.
بالعودة إلى التعريف، نجد أنه يفترض أن المجتمع هو الذي يضع القواعد والقوانين التي تحدّد المؤسسات، وطبيعة عملها وعلاقتها بالأخرى، وكيفية الرقابة عليها. ولذلك يكون المجتمع مشاركاً في السلطة، واتخاذ القرار، وتحديد التوجهات، وتصحيح البوصلة عن الانتخاب الحر للبرلمان، والمجالس المحلية، ثم المشاركة الفعالة للمجتمع المدني، مع تلك المؤسسات، ومع الأجهزة الرقابية، وكذلك من خلال حملات الرقابة الشعبية على كل تلك المؤسسات. ولا يوجد هذا كله عندنا بالتأكيد، فالقواعد والقوانين وطريقة عمل المؤسسات تتنزل من أعلى السلطة إلى المؤسسات، على شكل الفرمانات التي يتم إصدارها لأسبابٍ مجهولة أو غير مقنعة، وربما يتم إلغاء تلك الفرمانات بعدها للأسباب نفسها.. وكذلك لا أحد يعلم لدينا تحديداً عن خطط العمل وطريقة عمل المؤسسات، أو التوجهات العامة، فهي أشبه بالخطط الحربية.
ولذلك، من غير المتوقع، ومن غير المنطقي، أن يكون هناك أي تقدم في مجالاتٍ، مثل التعليم والبحث العلمي أو الصحة أو الصناعة أو الزراعة أو التجارة، أو حتى الرياضة، إن كان النظام الحاكم قائماً على احتكار السلطة، والسيطرة على كل المؤسسات، وإقصاء كل من يعارض أو يخالف أو يتشكّك أو يتساءل، أو حتى ينصح.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017