صيد "غير مشروع" في فرنسا

صيد "غير مشروع" في فرنسا

02 يناير 2016

هولاند يصعد في خطابه للالتفاف على خطاب اليمين (30نوفمبر/2015/Getty)

+ الخط -
"الرئيس فرانسوا هولاند يمارس الصيد غير المشروع على أرض اليمين". هكذا عنون كبير محرري الشأن الرئاسي في صحيفة لوموند الفرنسية مقالته قبل أيام. ومن متابعة الحدث الفرنسي، غداة وقوع هجمات 13 نوفمبر/تشرين ثاني 2015 الإرهابية، يُلحظ بجلاء حصول تسابق سياسي على تبني خطابٍ أمنيٍ تطميني للعامة من الناس. ولقد أثبتت التجارب السياسية العديدة، كما المراحل التاريخية القريبة، بنجاعة هذا الخطاب الترهيبي، التطميني والانغلاقي في الآن نفسه. وقد لجأ كثيرون من القادة في دول عديدة، ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، إلى هذا الخطاب التصعيدي لتحشيد عموم الناس خلف برامجهم السياسية/ الأمنية. وأحياناً، كما فعل جورج بوش الابن إثر هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، ساعد تبني هذا الخطاب في دعم "المجهود" الحربي وخوض المعارك خارج أراضي الدولة، بحجة حمايتها من خطر قادم، أو حتى الاكتفاء بمعاقبة الإرهاب والانتقام من الإرهابيين. في المقابل، أوضحت مجريات الأمور، في غالب الحالات، أن هذه السياسات قصيرة أو متوسطة الأمد والنظر والنتائج. كما بيّنت التجربة أن الانعكاسات على المدى الطويل لمثل هذه الإجراءات تحمل جرعاتٍ أكثر حدّة ودموية من العنف، كما من أنواع متجددة من الإرهاب، أو من أشكال مختلفة من الحروب التي تنعكس سلباً على الأصعدة كافة.
ويبدو أن "سهولة" استقطاب الأصوات، من خلال تبني هذا التوجه، تحجب عن أنظار القائمين على شؤون الدول هذه الحقائق. ويبدو أن تبني الخطاب الأمني/ الترهيبي يدفع عن المسؤولين، على مختلف مشاربهم الأيديولوجية والسلطوية، مسؤولية النظر بعمق أكثر ومنهجية لاجتراح الوسائل الأنسب في الحفاظ على الأمن والاستقرار والازدهار.
إثر الهجمات الدموية لتنظيم داعش في باريس، وفي 16 من الشهر نفسه، وأمام مجلسي النواب والشيوخ مجتمعين، قال الرئيس الفرنسي:"يجب أن نتمكن من أن نحرم من الجنسية الفرنسية كل الأفراد المدانين بالاعتداء على المصالح الأساسية للأمة الفرنسية، أو بالقيام بعمل
إرهابي، ولو كان هذا الفرد قد ولد فرنسياً، ما دام يتمتع بجنسية أخرى". وقد فوجئ كثيرون بهذا المقطع "العنفي" في خطابه، إلا أن فداحة المأساة التي حصلت قبل أيام تمكنت من امتصاص وقع هذه المفاجأة "الغريبة". وقد كتب كثيرون حينها، وصاحب هذه السطور منهم، أن اللغة القاسية التي لجأ إليها هولاند، في خطابه هذا، كانت لمجاراة الحدث، وللالتفاف على أي خطاب يميني تصعيدي، يستغل دائماً فرصاً مشابهة، ليُعيد مسألة الأجانب، والخوف منهم ومن "مواطنيتهم" إلى ساحة الجدل العقيم. وقد توقع المراقبون أن تتجاوز الحكومة، بطريقةٍ ما، مثل هذه التصريحات "غير المسؤولة" وغير الدستورية. حيث تنص المادة الأولى من الدستور الفرنسي على أنه لا يوجد بين مواطني الجمهورية أي "تمييز بالنسبة للأصل أو العرق أو الدين".
وبعيداً عن التهكم الذي ملأ الصحف، إثر هذا التصريح، وكان أطرفه إعلان إحداها في عنوان رئيسي أن أحد فرنسيي داعش قد عدل عن القيام بعملية انتحارية في باريس، خوفاً من فقدان الجنسية الفرنسية، فقد أبرزت الحمولة "اليمينية" فيه بعداً خطيراً مؤشّراً إلى تحول "انتهازي" عن المبادئ والقيم التي قامت عليها، ليس الجمهورية فحسب، بل كل الحركات اليسارية والليبرالية الاجتماعية التي يفتخر الحزب الاشتراكي الفرنسي بأنه يُعبّر عنها، نظرياً على الأقل.
حصل الانقسام بسرعة في صفوف الحزب الاشتراكي، وبشكل واضح إثر هذا الموقف "المتطرف"، وقد نأى كثيرون من أعمدة الحزب بأنفسهم عن الرئيس وسياسته. كما كُتبت عشرات، بل مئات المقالات والدراسات التي توضّح "سذاجة" و"انتهازية" مثل هذه الخطوة دستورياً وقانونياً وإنسانياً، وحتى أمنياً. هذا دفع وزيرة العدل كريستيان توبيرا، والتي يمكن اعتبارها من آخر اليساريين في حكومة إيمانويل فالس "الاشتراكية"، إلى الإعلان عن عدول الحكومة عن التقدم بمثل هذا الطلب إلى مجلس النواب، سعياً إلى تعديل الدستور. لكن، سرعان ما تم تنبيهها إلى التزام "حدودها"، لتعود عن هذا التصريح، وتعض على أصابعها، مؤكدة أن الحكومة ماضية في تنفيذ ما جاء في خطاب الرئيس هولاند. في المقابل، المفارقة الكبرى هي انتقاد بعض من "زاود" عليهم الرئيس الفرنسي بموقفه من "عقلاء" اليمين التقليدي هذه الخطوة، مشددين على مسألة المبادئ والقيم، حيث اعتبروا أنه، مع تبني مثل هذا التعديل، "سيكون هناك تمييز بين فئتين من الفرنسيين".
يُحدث طرح مثل هذا التعديل الذي كان من أهم بنود برنامج "الجبهة الوطنية" المتطرفة في حملاتها الانتخابية تأثيراً سلبياً على وحدة الفرنسيين، ولن يكون له أي أثر فعلي على مواجهة الإرهاب والإرهابيين. وهو يسعى إلى الصيد في الماء العكر لليمين المتطرف، سعياً إلى استقطاب الأصوات، تحضيراً للانتخابات الرئاسية سنة 2017. وعلى الرغم من أن بعض استطلاعات الرأي تُشير إلى أن غالبية من الفرنسيين تؤيد هذا التعديل، إلا أن الحديث عن المواطنة في أي بلد ليس محصوراً بالغالبية، بل بمجمل سكان هذا البلد، وقد سبق لفرنسا حقوق الإنسان والقيم قد علمت العالم ذلك. المواطنة عامل تجميع، وليست عامل تقسيم.