رينغو

رينغو

13 يناير 2016

جوليانو جيما في مشهد من فيلم "مسدس لرينغو" (Getty)

+ الخط -
حين اندلعت الحرب الأهلية في لبنان في عام 1975، راحت صور الضحايا تملأ حوائط المدينة. قبل تلك الحرب، لم تكن بيروت تعلق على جُدُرها غير صور النواب "المحبوبين". ومع تزايد أعداد الضحايا، صارت نواصي المدينة ميادين للتباري في مَن له شهداء أكثر. وكانت الجملة التقليدية التي تتكرّر في أسفل كل صورة: "الشهيد البطل فلان الفلاني". واستمرت هذه الحال، حتى الخروج الفلسطيني من لبنان في عام 1982. ومنذ ذلك التاريخ، صرنا نقرأ عبارات جديدة مرشومة في أسفل صور الضحايا، مثل "الشهيد المظلوم"، أو "شهيد الغدر والخيانة". وكم علمنا أن فلاناً سقط في أثناء سرقة مكشوفة، فإذا بصوره تملأ الشوارع في اليوم التالي، وتحتها عبارة "الشهيد المظلوم". وهذا برهان إضافي عن أن "البطل" في المجتمعات الأهلية التي انفرط فيها عقد الدولة هو الذي يبزّ غيره في قتل أكبر عدد من خصومه، فلا عجب أن يصبح مرتكب مجازر السبت الأسود وتل الزعتر وإهدن والصفراء رئيساً للجمهورية، وأن يتبوأ أحد تجار المخدرات منصب النيابة. وفي تلك الحقبة، شغف الشبان في بيروت بالممثل الإيطالي جوليانو جيما الذي أدى دور "رينغو" في فيلم وسترن بعنوان "مسدس لرينغو". وها هو "رينغو" يعود اليوم إلى لبنان بصورة جديدة؛ فقد عمد نائب سابق، يدعى حسن يعقوب، إلى تكليف مجموعة مسلحة استدراج هنيبعل القذافي إلى مكانٍ ما في سورية، ثم اختطافه إلى لبنان، مشفوعاً بالضرب واللكم. ولعل ذلك النائب السابق اعتقد أنه قام بعمل بطولي، بذريعة أن هنيبعل القذافي هو ابن مَن اغتال والده الذي كان يرافق الإمام موسى الصدر إلى ليبيا، واختفى معه في سنة 1978. لكن، حتى لو كانت الغاية شريفة، فإن الوسيلة المنحطّة تجعل الغاية نفسها موحلة. والاختطاف وسلب حرية الأفراد جريمة كبرى في حد ذاتها، فكيف إذا وقعت على شخصٍ غير مسؤول إطلاقاً عما فعله والده؟
في المجتمعات الأهلية الرثة، لا عجب إذا تجرأ نائب، كان يشارك في صوغ القوانين، على ممارسة البلطجة، متكئاً على مظلومية والده، غير أن هذه المظلومية المحقة تتلاشى كغبار الطلع، إذا لم تتسربل بالأخلاق والقوانين معاً. والمعروف أن هناك لجنة قضائية لبنانية تعمل مباشرة مع السلطات الليبية، ولم تتوصل إلى أي نتيجة في قضية الإمام الصدر، على الرغم من احتجاز قادة الاستخبارات الليبية كلهم في السجون الليبية الآن. ومع ذلك، لا نتائج جديدة في هذه الحكاية، ما يشير إلى أن هذه القضية غير محصورة بليبيا وحدها، بل لها أبعاد سياسية، تتخطى الحدود الليبية.
في معمعان هذا "الاستلشاق" بالدولة وبالقوانين، يتداعى، في كل يوم، الأقارب وذوو المآرب والعقارب، مطالبين بإطلاق الخاطف، وإبقاء المخطوف في السجن. فيا لها من معادلة للعدالة، وهذه من غرائب الأحوال حقاً، حتى أن شقيق الخاطف الذي يضع حرف دال قبل اسمه هاجم القضاء اللبناني، لأنه استند، في توقيف شقيقه، إلى شهادة امرأة. عجيب والله! من أي جامعةٍ نال هذا الشخص لقبه العلمي؟ والمعروف أن تلك المرأة الشجاعة جرى استخدامها طعماً لاستدراج القذافي الابن. وعندما اكتشفت النذالة في ذلك، ذهبت برجليها إلى القضاء، وأدلت بشهادتها... وحسناً فعلت. لكن المجتمع الأهلي من طراز ما قبل الدولة لا يفهم لغة القانون وسلطة القانون، بل إن سلوكه القطيعي يجعله حارساً لغريزة الثأر، وأخذ "الحق" باليد، هذا إذا كان هناك حق فعلاً. فما الفارق، في هذه الحال، بين المجتمع الأهلي، حين ينفلت من عقاله، ومجتمع الضواري؟
الدولة هي التي تعقل هذا المجتمع، وتمنع انفلات غرائزه البدائية. وهذا هو الاختبار الجديد للسلطة القضائية في لبنان التي هي ميزان السلطات الدستورية كلها.