في ذكرى ثورة تونس

في ذكرى ثورة تونس

12 يناير 2016
+ الخط -
في الرابع عشر من شهر يناير/كانون ثاني2011 عزفت تونس لحنها الثوري العذب، وتمايل الشعب طربا، تناغما مع ألحان لطالما اشتاق لسماعها سنوات طوال.
قبل هذا التاريخ الجليل، كانت قوافل الشهداء تسير خبباً في مشهد قيامي مروّع باتجاه المدافن، بعد أن حصد الرصاص المنفلت من العقال رقاب شباب تبرعم ربيعهم، وأزهر في بساتين العمر الجميل.
كان محمد بوعزيزي أوّلهم، حين خرّ صريعا ملتحفا ناراً بحجم الجحيم، ثم سقط من بعده شهداء كثر مضرّجين بالدّم، بعد أن أفرغ حفاة الضمير غدرهم في أجسادهم الغضّة التي سالت منها دماء غزيرة. وفي الأثناء، كانت الفضائيات بارعة، وهي تمطرنا بمشاهد بربرية دموية، لا يمكن لعاقل أن يصدّق وقوعها في بلد كان يزعم حاكمه أنّه من مناصري حقوق الإنسان! قبل أن يضطر إلى سماع صوتنا الذي ما كان أن يصل لولا هذا الثمن الفادح؟
هي ذي تونس، وقد غدت استثناء، بعد أن أشعلت بثورتها المنطقة العربية بدرجات متباينة، لكن ردود الفعل على هذه الثورات هي ما صاغ اختلافاتها، علاوة على التمايزات في المكون الاجتماعي للدول العربية.
أقول تونس استثناء، لأن مصر ما زالت مضطربة، وسورية تطحنها حرب أهلية، وليبيا تعاني اضطرابات أمنية وسياسية، وشبح صراع أهلي مسلّح يخاض، ويخشى من تطوره لحرب أهلية شاملة، واليمن تحيط به انقسامات قبلية عميقة، ودعوات انفصالية في ظل فشل وشلل كامل للدولة، وتدخلات أطراف دولية وإقليمية.
عوامل عديدة مرتبطة بطبيعة تونس، جعلتها استثناءً عن بقية دول ما يسمى "الربيع العربي"، أهمها طبيعة الجيش، وطبيعة الانتقال السلس للسلطة، لتجعل من الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت، في كنف النزاهة والشفافية، النموذج الفريد في المنطقة العربية الذي يترجم وعي المجتمع التونسي، وقدرته الفائقة على الحفاظ على مكتسبات الثورة.
يقول بعضنا إنّ استثنائية تونس يعود الفضل فيها إلى الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وحقبته التاريخية التي امتدت عبر ثلاثة عقود، وفرض فيها قيماً حداثية وليبرالية، تقطف تونس ثمارها اليوم. ولكن، ما يحتاج إلى قراءة أكثر عمقاً هو مسألة الهوية في تونس، فتركيبة المجتمع لم تنتج انقسامات طائفية أو قبلية، وحكم التجاذبات في تونس الأفكار لا الهويات، وهو ما جعل الصراع على المجتمع أقل مما هو عليه في بقية دول الثورات، وهو ما سيجعل تقسيم تونس مناطقياً: جنوب-شمال، ومن ثم إذكاء نار الفتنة بين الجهات، ضربا من الأوهام الزائفة.
ومن هنا، تتجلى تونس كأهم نماذج الثورات العربية، دولة عربية تعيش فترة انتقالية مستقرة نحو الديموقراطية والتعدّدية، فتونس لم يلوثها القمع، ولم يُدِرْ دفتها العسكر، ولن يشتاق شعبها لمشانق الدكتاتور، ولا لقمع دولة البوليس، ولن ينخرط في حرب أهلية، لا أرضية لها ولا جذور.
ولكن، في المقابل، الصورة ليست ورديّة بأي حال، إذ لا تزال الملفات التي تحتاج إلى حلول عديدة ومتعدّدة، ولا سيما بعد التعديل الوزاري الأخير، منها الملف الأمني و"الإرهاب والاضطرابات الاجتماعية والإنماء غير المتوازن بين المناطق، والصعوبات الاقتصادية الكبيرة..إلخ.
ما يتفق عليه مهتمون عديدون بالشأن السياسي التونسي أنّ تونس تتجه كي تصبح رائدة الديمقراطية في العالم العربي، ولكنها، كما أسلفت، لا تزال تواجه تحديات ضخمة وفعلية، فالبلاد في أشد الحاجة للاستقرار السياسي، الذي يُعدّ الاستقرار المؤسساتي من أهم مرتكزاته.
تحتاج تونس في المرحلة المقبلة إلى استقرار، لكي تهضم مكاسبها الديمقراطية التي أنجزتها بقدرة مذهلة واستثنائية، إذا ما قيست ببقية البلدان العربية التي شهدت ثورات سرعان ما تحوّلت إلى فوضى واحتقان، فالتونسيون يتحركون نحو الديموقراطية بخطى ثابتة، وهم مدركون بأنّ بلدهم يصنع التاريخ، ويؤسس لغد مشرق تصان فيه كرامة الإنسان.
المطلوب أن لا ينزل السياسيون إلى حضيض الصراعات والمزايدات التي لا طائل منها سوى تأجيج الأوضاع، وتغليب الفتق على الرتق. هذا في وقت الذي نحتاج فيه جميعا إلى تهدئة الأوضاع، وتخفيف حدة الاحتقان، ولا سيما وأنّ قوى إقليمية تزعجها التجربة التونسية الرائدة، وتسعى إلى إفشالها بمساندة طرف على حساب آخر، ومحاولة تأجيج حالة الانقسام، لكنها محاولات فشلت، إلى حد الآن، في كسر "حالة الوعي العام" الداخلي التي تعكس إصرار التونسيين الذين عبّروا، بشكل قاطع، عن رغبتهم في طَي صفحة هذه الوضعية الانتقالية التي طالت بالنسبة إليهم، وحالت نسبياً دون عبور تونس من صيغة المؤقت إلى الدائم والدستوري.
التحديات والرهانات مازالت قائمة، وتستدعي منا جميعاً الإنخراط في ملحمة البناء والتشييد، إذ لا سبيل إلى القطع مع واقع الإنتقال إلى غد مشرق، تصان فيه كرامة الإنسان، من دون وعي عميق وإدراك موضوعي لحقيقة الصعوبات التي تنتظرنا في منعطفات الدروب، وما تتطلبه من تضحيات لتحمّل أوزارها بصبر الأنبياء.
avata
avata
محمد المحسن (تونس)
محمد المحسن (تونس)