التحرش الجنسي يكتم استغاثة مضايا

التحرش الجنسي يكتم استغاثة مضايا

12 يناير 2016

اعتصام نسائي في كولونيا الألمانية ضد التحرش (9 يناير/2016/أ.ف.ب)

+ الخط -
أثارت الاعتداءات الجماعية التي "تعرضت لها أكثر من مائة امرأة" ليلة رأس السنة في مدينة كولونيا الألمانية، ومثلها تقريباً في مدينة هامبورغ، سخطاً ألمانياً شعبياً ومؤسساتياً وردود أفعال قوية، وفتحت النقاش مجدداً بشأن اندماج المهاجرين في ألمانيا. ووفقاً لبيانات الشرطة، فإن نحو ألف شاب "يبدو أنهم يتحدرون من دول عربية أو شمال إفريقية" تجمعوا ليلة رأس السنة 2016 في ساحة محطة القطارات الرئيسية في كولونيا، وتشير التحقيقات إلى أن "عدة مجموعات تكونت من هذا التجمع، وأحاطوا بالنساء من كل جانب، وتحرشوا بهن وسرقوهن". ووصفت الشرطة ما حدث بأنه "جرائم جنسية" جرت بشكل جماعي، بالإضافة إلى "حالة اغتصاب" واحدة.
في المؤتمر الصحافي للمتحدث باسم الداخلية الألمانية في برلين، قال إن من بين الموقوفين، حتى الآن، متورطين، بينهم سوريون، والتحقيقات جارية للكشف عن الباقين. وفي التقرير الذي قدمته مراسلة مؤسسة الدوتشه فيليه الألمانية، ميسون ملحم، كان هناك مشهد مؤثر جداً، أظنه سوف يحصد تعاطف الملايين ممن سيشاهدونه، فقد اعترضت سيدة ألمانية فريق المحطة في ساحة القطارات التي شهدت حوادث التحرش لاستطلاع الرأي، وطلبت التحدث إليهم، قالت: ابنتي تعرّضت هنا للتحرّش والضرب، سمعت صراخها، ولم أستطع أن أفعل لها شيئاً... ثم بكت الأم، ولم تستطع أن تكمل حديثها، فقط كانت تسمع استغاثة ابنتها، وكانت عاجزة عن مساعدتها، حتى إن مراسلة المحطة بكت أيضاً.
حادث من هذا النوع، ربما لا يدرك الفاعلون مدى خطورته، وفداحة الجريمة التي ينضوي تحتها، فهي ليست أكثر من استخفاف بالقوانين والنواميس التي لم يعتادوا وجودها الفاعل في حياتهم الماضية، أو أن يكون لها القدرة على كبح جماح شهواتهم في لحظة انفلات، فهم متحدرون من بيئة منغلقةٍ على هوية متأصلة تاريخياً، تحرص على مبادئ التربية التي يجب أن يكبر الأفراد عليها جيلاً بعد جيل، مستمدة سطوتها وفاعليتها من النصوص الدينية والعقاب الإلهي. وهم، بالتالي، لم يقترفوا أكثر من فعلٍ لم يكن مستهجناً في بيئتهم، هذا إذا لم يكن مباركاً في الثقافة التي تحكم تلك البيئة، الثقافة الذكورية الأبوية السلطوية المستبدّة باسم الدين والشريعة التي تعتبر المرأة، قبل كل شيء، كائناً دون إنساني، فهي ليست أكثر من تابع أو ملحق بالرجل، وبالتالي لا تمتلك إرادة، ومن لا يمتلك إرادة ليس له حق في كيانه، وأهم جزء فيه جسده، وأكبر دليل دامغ، ليس فقط ما تتعرّض له المرأة من عنف بكل أشكاله، سواء لفظياً أوسلوكياً، على مدى حياتها، بل القوانين التي تشرّع هذا العنف المهين للكرامة والروح، وهو جرائم الشرف، في ظل نظام يدّعي العلمانية.

تشكل منظومة الوعي الاجتماعي مجموعة الأعراف وقيم الموروث التاريخي والديني التي تنسج شبكة العلاقات بين أفراد المجتمع. ويرتبط تغيرها المحدود بحجم الأمية والجهل والفقر والاستبداد، ولم يكن ينقص مجتمعاتنا واحد من تلك العوامل وغيرها عشرات. مجتمع تطور تاريخياً تحت ظل استبداد ديني واجتماعي وسياسي، وتضافرت عليه سلاطين هذا الاستبداد، لتغييب عقله وإبعاده عن فهم الحياة وصياغة منظوماته الفكرية والقيمية والأخلاقية، وليس من دليل أكبر مما كشفت عنه الأزمة السورية من هشاشةٍ على مستوى هذه المنظومات.
حرّكت هذه القضية الرأي العام، ودفعت السلطات الألمانية، والأوروبية بشكل عام، إلى الوقوف، مرّة أخرى، أمام مشكلة اللاجئين التي صارت أزمة وقضية خلافية في دول الاتحاد الأوروبي، من أجل استصدار قوانين أخرى، ناظمة للتعامل القانوني مع اللاجئين. في ألمانيا، انطلقت مظاهرات في عدة مدن ألمانية، بين داعمة للاجئين ومناهضة لهم، فحركة بيغيدا المناهضة لم تعد وحدها، بل هناك انزياح ملحوظ في المزاج الشعبي نحو اليمين، ومن بين الآراء المتداولة أن هذه الأفعال مدفوعة سياسياً من اليمين، لأجل كسب مزيد من التأييد الشعبي، والضغط على الحكومات للتعامل بشكل آخر مع قضية اللاجئين.
أمام هذه المشكلة، ومشكلات أخرى يتعرّض لها اللاجئون، ويتسبب فيها قسم منهم أيضاً، يجب البحث في جوانب التقصير وتحديد المسؤولية، فالحراك السوري الذي انقلب إلى حربٍ شرسةٍ شارك فيها العالم، أدّت إلى خروج الملايين من الشعب السوري، كان حريّاً بالهيئات السورية السياسية المعارضة التي أحدثت لنفسها مجالس وهيئات سياسية وعسكرية، وشكّلت حكومة موازية، ولها تمثيل في دول وسفراء عنها، كان حريّاً بها أن تهتم بشؤون السوريين الذين "تمثّلهم"، فتعمل على توعيتهم، وهم القادمون بمعاناتهم وجراحهم هاربين من الموت بعدما عاشوا على مدى عقود شبه مشلولين وعاجزين عن المبادرة وإبداع حياتهم، كان من الواجب تشكيل لجان ومتابعتها للقيام بهذا الدور ومساعدتهم في الاندماج بالمجتمعات المضيفة وتعريفهم على قوانينها، وبشكل خاص تعريفهم على قيمة القانون الذي لم يعتادوا على هيبته سابقاً في بلدانهم.
ما يظهر من حالات تحرّش جنسي، أو الاعتداء الجنسي الجماعي في بعض مناطق التمرد أو الصراع أو الاقتتال، ليس أكثر من تعبير انفعالي عنفي، في ظل خصومات تقسم المجتمع، تزيد من ضراوتها الفتنة التي لها من يؤججها باستمرار، والعنف في مواجهات من هذا النوع يحدث بأشكال عديدة، كلها ردود أفعل تحريضية، تخفي وراءها، في اللاوعي الجمعي، حوامل ثقافية موروثة ساهمت تاريخياً في صياغة العواطف والمشاعر، تزداد ضراوتها تحت تأثير الإحساس بالانتماء إلى المجموع، أو إلى الجمهور المحتشد الثائر الغاضب، فيصبح الفرد أكثر جرأة، بل وتهوراً بسبب انعدام المسؤولية والإحساس بالفردية التي تنحّي مشاعر الخوف أو الدونية، وبالتالي، فإن المشاعر البسيطة التي يمكن أن يشعر بها الإنسان في الحالات العادية، مثل النفور أو الرفض، يمكن أن تتحول، في هذه اللحظات، إلى حقد وغضب ورغبة في الانتقام من الآخر، وإذلاله باغتصابه أو باغتصاب رموزه. لذلك، كان الاغتصاب أمراً واقعاً وشائعاً في ميادين الصراع، خصوصاً المناطق التي تشهد صراعاً يُدفع لكي يأخذ منحى الحرب الأهلية، وذلك بتأجيج الفتنة المذهبية والطائفية، والعمل على مسخ الآخر المختلف وحيونته، وبالتالي، يصبح أمر اغتصابه، معنوياً وفعلياً، أمراً هيناً إذا لم يكن مطلوباً.
أما الاعتداء على مواطنين في بلدانهم، بعد أن فتحت هذه البلدان أبوابها للاجئين ومنحتهم الحياة والأمان، فهذا أمر خطير وخلل كبير، لا يمكن السكوت عنه، أو تجاوزه. ففي الوقت الذي يعاني فيه الشعب السوري من القتل من أطراف عديدة في ساحات الصراع، ويموت جوعاً وبرداً، وهو أكثر ما يحتاج إلى التفات العالم إلى معاناته الإنسانية وكارثته الوطنية، تتحوّل الأنظار إلى ممارسات مشينة بحق السوريين، ومهينة للإنسانية، فالمواطن الأوروبي دفع ثمن لحظته الراهنة التي يعيش فيها، وفق مبادئ وقيم ناظمة لحياته، وسوف يدافع عن حياته وكينونته، وستتعقد مشكلة اللاجئين أكثر. الاعتداء على المدنيين بكل أشكال العنف في هذه الدول لن تخدم الثورة التي اغتصبت، ولن ترفع الجوع عن مضايا التي تستصرخ العالم، ولن تردّ البراميل، ولا القنابل المنهمرة، ولن تردع طائرات العالم عن اغتصاب سمائنا، ولا رايات السواد أو سيوفه عن قتل أرواحنا ونفوسنا، فمتى سيثوب الضالون إلى رشدهم؟