في اليسار الذي أَقصَى نفسه

في اليسار الذي أَقصَى نفسه

11 يناير 2016
+ الخط -
في عصر تداعت فيه الإمبراطوريات، لصالح دولة الحداثة الأوروبية، وَضَعَت اتفاقية سايكس- بيكو حداً لطموحات الثورة العربية الكبرى، الحالمة باستعادة الإمبراطورية العربية. وتحت الوصاية السياسية الاستعمارية، أُتيحت للعرب أنشطة سياسية، برلمانية وحزبية، وبدت النخب العربية، ذات التوجهات الوطنية والطموحات السياسية، قد تبلورت بشكل أكثر وضوحاً.
شكّلت تلك النخب حوامل اجتماعية رئيسية للمشاريع الأيديولوجية الكبرى: القومي والاشتراكي والليبرالي والإسلاموي. بُعيد الجلاء، وعبر دساتير ومؤسسات، تنافست تلك النخب على السلطة في أجواء ليبرالية إلى حين، لتبدأ سلسلة من الانقلابات العسكرية، انتهت باستقرار السلطة في أيدي العسكرتاريا العربية التي حسمت شعاراتها الأيديولوجية.
بروباغاندا شيطنة الخارج، بوصفه صهيونياً وإمبريالياً بإطلاق، القبضة الأمنية، السيطرة على وسائل الإعلام، وإعادة إنتاج نمط السلطة الأبوية، كونت جميعها ركائز استراتيجية احتكار النخب الحاكمة للسلطة السياسية. وفي الوقت الذي قُمع فيه الإسلامويون أمنياً وسياسياً، أُطلقوا في وجه المعارضة اليسارية أيديولوجياً ودعوياً. أما الدعم الحذر الذي توفر لليسار من المنظومة الاشتراكية العالمية، فكان معرّضاً للخسارة أمام أولوية البراغماتي على الأيديولوجي، ومصالح تلك المنظومة التي ضمنتها النخب الحاكمة. بينما وجد الإسلامويون احتضاناً أيديولوجياً من بعض الأنظمة العربية التقليدية، وكانت أراضي دولها "دار هجرة" للمعارضين منهم.
لم تتردّد أنظمة تقليدية في التحالف مع العسكرتاريا العربية وتوظيفها، وضمنت بقاء مشاريع اليسار الأيديولوجية بعيداً عن حدودها. ولعل عملية خطف جناح يساري راديكالي وزراء "أوبك"، في عام 1975، قد أسست لتوجهات إقصاء اليسار عن المساهمة في أي "حرب تحرير شعبية" متاحة هنا أوهناك، والتمهيد لاحقاً لاحتكارها إسلامويا.
استمر التداخل التقليدي بين الثقافي والسياسي طابعاً مميزاً للفكر العربي المعاصر منذ الاستقلال، وكان عدد كبير من رموز الثقافة والفكر والفن، لاسيما من اليساريين، أعضاء عاملين، وذوي مراكز تنظيمية مختلفة في أحزابهم التي أسهمت في رواج عدد لا بأس به من الأسماء، وتصديرها إلى شرائح أوسع خارج دائرة الثقافة النخبوية. وبدعوى الالتزام، اهتم المثقف العربي بـ "الأمة" على حساب المواطنة، وبمعركة الخارج على حساب معارك الداخل. حتى "الصراع الطبقي"، القضية المركزية في أيديولوجيا اليسار الماركسي، بوصفها محركاً للتاريخ، أُجِّل حسمها لصالح معركة الخارج التي بدا أن التاريخ توقف دونها.
أنتجت القواسم الشعاراتية المشتركة بين أيديولوجيا السلطة والمعارضة اليسارية خطاباً توفيقياً، صب في صالح تعزيز مواقع النخب الحاكمة واستراتيجيتها على حساب المعارضة، وبدا أن النخب الحاكمة اكتسبت مشروعيتها في احتكار قيادة تلك المعركة، وضمنت نقل المنافسة الداخلية مع المعارضة إلى الخارج، متملصة من استحقاقات الداخل. وحاول خطابها الشعبوي تكريس معارضة النظام، خيانة لقضية الأمة، والمعارض السياسي عقبة في طريق "القيادة الحكيمة" نحو معركة التحرير المؤجلة. وبقدر ما اعتقد مثقفون، تورّطوا في ذاك الخطاب التوفيقي، أن الخلاص يمر عبر فوهة البندقية الأيديولوجية المصوّبة نحو الخارج، كادت الجماهير أن تقتنع بأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. ومع الهزائم المتكرّرة، غُيّب نقد "الأيديولوجيا المهزومة" خلف شعار "إزالة آثار العدوان"، وبقي النقد مشروعاً فردياً، وترفا لا لزوم له في ظل استمرار المعركة المصيرية.

بعد انهيار المنظومة الاشتراكية العالمية، تصدّعت الشعارات الأيديولوجية الكبرى، وفقدت النخب العربية سنداً سياسياً وعسكرياً، لكن النخب الحاكمة حافظت على تماسكها، ووفرت براغماتيتها المرونة اللازمة للتخلي عملياً عن شعاراتها الأيديولوجية، وكان لا بد من إجراء بعض "الإصلاحات" التي اختزلت اقتصادياً، في التوجه نحو الخصخصة واقتصاد السوق. وسياسياً، بإتاحة هامش من المشاركة السياسية، انتهت عند صناديق الاقتراع. وعبر إعادة تدويرٍ للنخبة المسيطرة، بضخ دماء جديدة تدريجياً من المراتب الدنيا إلى الصفوف الأولى، أمكن القيام بالوظائف التي تطلبتها المرحلة، من دون تغيير يمسّ جوهر النخبة.
حصد الإسلامويون، في أكثر من بلد عربي، نتائج الانتخابات البلدية والتشريعية، بعد مراجعاتٍ شرعيةٍ سياسيةٍ في ظل رقابة أمنية، واقتضت اتفاقيات السلام، الموقعة مع إسرائيل، إطلاق العنان لبعض "الليبراليين"، ترويجاً للتطبيع وفوائده على الداخل المهمش. وبدا أنه آن الأوان للتخلص من أعباء القضية الفلسطينية، بعد تحميلها مسؤولية شبه كاملة عن مآسي الوطن والمواطن، ليرزح كلاهما تحت اقتصاد ريعي قائم على التجارة والخدمات، مقابل تهميش قطاعات الإنتاج الصناعية والزراعية. ازدادت الهوة بين الأغنياء والفقراء، واضمحلت الطبقة الوسطى سريعاً، التي كانت عامل توازن المجتمعات العربية. كانت المعارك الداخلية أكثر وضوحاً، لكن معظم اليسار ظل يرفع مظلته الشعاراتية المصنوعة من الورق، التي لا تفيد حين تمطر السماء، وفقد ما تبقى له من رصيد جماهيري.
في التسعينيات أيضاً، أعلنت لجان حقوق الإنسان عن نفسها، وانطلقت طلائع قوى المجتمع المدني، ومراكز الدراسات والأبحاث، التي جوبهت، وغيرها من هيئات غير حكومية، بقمع أمني مدروس وممنهج، وفق استراتيجية شيطنة الخارج. وعلى الرغم من انخراط ناشطين ومثقفين يساريين فرادى في تلك الهيئات، نظر الفضاء اليساري العام إلى هذا الحراك المدني من منظور العمالة الخارجية، بوصفه أحد أدوات الإمبريالية الجديدة، فجرّعوهم الكأس نفسها التي تجرّعوها بدورهم من النظم الحاكمة، التي طالما صوّرتهم عملاء لموسكو السوفيتية.
كان موقف بعض اليسار من نظام صدام حسين، أحد أوضح تجليات ذاك الخطاب التوفيقي، ومثالبه في الوقت نفسه، إذ أيّد يساريون، أحزاباً ومثقفين، صراحة أو ضمنا، اجتياح صدام حسين للكويت (1990) انطلاقا من عقيدة نظّرت للأنظمة الخليجية التقليدية، باعتبارها أنظمة رجعية، ورأس حربة للإمبريالية العالمية، وغاب عن تنظيرها أن الرجعية والاستبداد وجهان لعملة واحدة. وعلى الرغم من الإدانة المشروعة والمحقة لسياسة الاستقواء بالآخر، على طريقة نخب عراقية معارضة، استجارت بالاحتلال الأميركي والبريطاني للعراق (2003)، تناست أن صدام حسين لم يتردّد في قمع انتفاضات العراقيين، بمختلف أطيافهم، عبر السياسة نفسها، وأن استبداداً استمر عقوداً، كان كفيلا بإيقاظ كل شياطين الداخل والخارج. ونسفاً لأي منطق مادي جدلي، يتيح خياراً نوعياً ثالثا، مارس اليسار اختياره من مبدأ: إما هذا أو ذاك، فتحول صدام حسين لدى يسار كثير، من ديكتاتور نموذجي إلى أيقونة للنضال ضد الإمبريالية والصهيونية العالمية.
بفصل ميكانيكي تعسفي، نسف اليسار التقليدي جدلية العلاقة بين الداخل والخارج، والتي ألحت عليها الفلسفة الماركسية نفسها، فمنحت الداخل أولوية الحسم في تلك العلاقة، بحيث لا يمكن للخارج أن يؤثر في الداخل، إلا بالقدر الذي يتيحه الأخير للأول. هنا، يسقط وهم التصدي لخارج مُتشيطِن، وآخر مُشيطَن، من دون داخل مُحصَّن.
إن كانت محاولات جرت لإقصاء اليسار العربي، فإن اليسار كان اللاعب الأهم الذي أسهم في إقصاء نفسه.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.